الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ج) وأخيرا، هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة، حيث كان للتصوير فيها نصيب وافر. قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)[سورة إبراهيم، الآيات 42 - 43].
أربع صور متتابعة متواكبة، أو أربعة مشاهد لموقف واحد، يتلو بعضها بعضا في الاستعراض، فتتم بها صورة شاخصة في الخيال، هي صورة فريدة للفزع والخجل، والرهبة والاستسلام، يجلّلها ظلّ كئيب ساهم يكمد الأنفاس! (1).
هذا وقد تحدث سيد- رحمه الله بعد ذلك في أبرز فصول كتابه عن «التخييل الحسّي والتجسيم» وعن «التناسق الفني» وعن «القصة القرآنية» نظرا لغناها الواسع في مسألة النماذج الإنسانية والطبيعة البشرية التي أخرجت في القرآن الكريم على تلك الحالة من التصوير الدقيق. ونورد فيما يلي طرفا من بعض هذه الفصول، يشير إلى مدى إسهامها في موضوع الإعجاز:
1 - التخييل الحسّي والتجسيم:
أما ما أطلق عليه: التخييل الحسّي والتجسيم، بوصفه القاعدة الأساسية التي قام عليها التصوير الفني
…
أو بوصفهما «الظاهرتين البارزتين في هذا التصوير» فإن التشبيه بمحسوس- وهو عماد تشبيهات القرآن- يمثل أبرز هذا التجسيم، غير أن سيد قطب لا يقصر التجسيم على التشبيه بمحسوس، وإنما يعني به «لونا جديدا هو تجسيم المعنويات، لا على وجه التشبيه والتمثيل، بل على التصيير والتحويل» (2).
قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
(1) التصوير الفني ص 49.
(2)
المصدر السابق ص 64.
حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)[سورة غافر، الآية 18]. فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر من شدة الضيق!
وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ [سورة النساء، الآية 90] أي ضاقت صدورهم من الحيرة والحرج بين أن يقاتلوكم انتصارا لقومهم، أو يقاتلوا قومهم انتصارا لكم.
ومنه التعبير عن عدم الهداية والانتفاع بالسماع بأن هناك حواجز مادية- مجسّمة- تفصل بينهم وبين الهدى والسماع: جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [سورة الكهف، الآية 57].
وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[سورة، محمد، الآية 24].
وقال عزّ من قائل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)[سورة يس، الآيتان 8 - 9].
ومعنى: أكنّة: أغطية. والوقر: الصمم، وأصله: الثقل، والمقمحون:
المرفوعو الرأس اضطرارا.
وانظر إلى الشواهد التالية التي اجتمع فيها التخييل والتجسيم حيث صورت الآيات الأمور المعنوية جسما محسوسا، وخيّلت حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير.
قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وقال تعالى:
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وقال تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وقال: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.