الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافة والتاريخ، أو بين النظرية- إن صح التعبير- والتاريخ على الصعيد الإسلامي، والتي لم تقتصر على هذه الفكرة القائلة: إن الثقافة (النظرية أو الوحي) هي التي صنعت التاريخ (1)، بل التي أضفنا إليها ما قلناه قبل قليل من أن (التاريخ) واكب- أيضا- الوحي ومشى في ركابه طيلة عصر التنزيل- أو التنجيم- من أجل تصحيح وقائعه، أو تصويب حركة التطبيق والتنفيذ! فكيف يقال بعد هذا: إن الواقع هو المتحكم في الوحي؛ إن اشتد اشتد الوحي، وإن تراخى تراخى الوحي معه؟ إن هذا القول مأخوذ أو منتزع في الحقيقة من الثقافات الوضعية! لأن الثقافة الأوروبية التي قابلنا بينها وبين ثقافتنا الإسلامية- في مناسبة أخرى (2) - هي التي صنعت التاريخ، وليس العكس، على نحو ما عليه الحال في الثقافة الإسلامية، ومن ثم فإن جعل (الواقع) هو الحاكم على الوحي، يشير إلى التسوية بين القرآن والثقافات الوضعية، وربما أشار كذلك إلى إنكار أن يكون القرآن وحيا إلهيا، من غير هذا اللف والدوران! ولا ندري- في مثال الشورى الذي تحدثنا عنه-لماذا لم (ينزل) الوحي- أو (يأتي) بعبارة أصرح- ناعيا عليها أو منتقصا من قدرها، بحجة (واقع) الهزيمة الذي أفرزته!
(ج) وأخيرا:
فإن في وسعنا أن نضيف إلى حكم تنجيم القرآن الكريم حكمة أخرى، أو أن نؤكد- بعبارة أدق- الحكمة الخامسة السابقة، وهي إثبات مصدر القرآن، وأنه تنزيل من حكيم حميد
…
لا بدليل اتساق القرآن وعدم اختلافه في الأسلوب والمضمون، على الرغم من نزوله واستكمال بنائه خلال فترة النزول الطويلة هذه، ولكن- هذه المرة- بدليل وقوع الأحداث والبشائر على النحو الذي تحدث عنه القرآن وأشار إليه طيلة عصر التنزيل، أو بدليل انقضاء مدة النزول أو التنجيم على
(1) راجع بحثنا المشار إليه: التاريخ بين ثقافتين.
(2)
المصدر السابق.
هذه الأحداث والبشائر، وعلى سائر وعود القرآن وإيعاداته من غير خلف أو اختلاف.
ألم ينزل القرآن الكريم يقول في شأن أبي لهب: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ فبقي أبو لهب على كفره فيما استقبل من فترة نزول القرآن حتى وافاه الأجل! وقد كان في وسعه سياسة أو نفاقا أن يقول إنه دخل في الإسلام فكيف يحكم عليه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيبقى على كفره، وأنه سوف يرد النار يوم القيامة. أم إنه الوحي والعلم الإلهي القاطع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
أليس في مثل هذا الحكم على المستقبل، هنا وفي قوله تعالى في شأن الوليد بن المغيرة: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ! ما يشير إلى أن هذا كله من شأن من بيده مفاتيح الهداية والإيمان، وأزمّة الأفئدة والعقول، جل شأنه؟
وإذا نظرنا إلى مثل هذه المواقف في ضوء مسألة (الواقع) التي أشرنا إليها في الحكمة السابقة، فهل يمكن القول: إن هذا الحكم كان استجابة للواقع؟ ومن الذي استجاب لهذا الواقع: (الوحي) أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما الوحي فقد نزل بحكم الله تعالى القاطع! وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن من وجهة نظر السياسة والواقع، أي من جهة حرصه على إيمان قومه، أو طمعه في إيمانهم أيا كانت درجة عداوتهم له ولما جاء به .. لم يكن مستعدا من هذه الوجهة، ولا من الوجهة النفسية- وقد بدأ بإعلان دعوته على جبل الصفا- أن يواجه أبا لهب بمثل هذا الموقف أو الإعلان المخيف!
ونذكّر في ختام هذه النقطة بأن جزءا كبيرا من حديثنا السابق عن (صدق ظاهرة الوحي) يمكن أن يدخل ضمن هذه الحكمة من حكم التنجيم، أو يلحق بها. والله تعالى أعلم.