الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبنيها لبنة لبنة، وآية آية؛ في السلم والحرب، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي سائر الأوضاع والأحوال. إن معاني القرآن الكريم التي عاشت في نفوس الصحابة والجيل الأول- والتي لم يؤثر عنهم إلا دليلها اللغوي مدونا في كتب التفسير- تمثلها سيد- رحمه الله وفهمها، والله أعلم، بحسه المرهف، وإيمانه العميق، وثقافته الواسعة، وتجربته الطويلة، وحركته الدائبة في حقل الدعوة والأمة، والمجتمع والناس
…
أو على الأقل: استشعرها من خلال هذا كله، واستطاع أن ينقلها بلغته وعباراته على الورق والصحائف!
الظلال- إذن- دليل عمليّ مكتوب، إن صح مثل هذا التعبير، إلى المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وليس دليلا ثقافيا لعلوم القرآن أو علوم التفسير، أو علوم الثقافة الإسلامية من فقه وأصول وتاريخ جدل أو خلاف! ومن ظن أن هذا هو تعريف «التفسير» ، أو أن تقديم ذلك الدليل الثقافي يجب أن يكون مهمة جميع المفسرين في جميع العصور، فليعد على معلوماته بالمراجعة والتحليل، وليعد إلى الغرض الأساس أو الأول من نزول القرآن الكريم بالنظر والتأمل! وليس من حقنا أن نقول في نقد هذا الموقف أكثر من ذلك.
(أ) من أخطاء التعامل مع الظلال:
والذي نقدره- بهذه المناسبة- أن عدم إدراك هذا الأمر أو هذا الأصل من أصول ظلال القرآن هو الذي أوقع بعض القرّاء في بعض الأخطاء والتصورات المناقضة أو البعيدة عن الصواب؛ فعند ما كان يتحدث سيد- رحمه الله عن «مواصفات» المجتمع الإسلامي وشروطه؛ عقيدة وتشريعا؛ إيمانا وعملا وسلوكا
…
إلخ كان يرسم بذلك- ومن خلال نصوص القرآن الكريم وواقع الأمة الإسلامية وسلوك السلف الصالح- صورة المجتمع الذي يجب علينا العمل والتحرك لقيامه وتحقيقه .. ولم يكن يرسم في الفراغ، كما لم يكن يقدم معلومات أو قضايا نظرية أو فلسفية، بحيث يمكن التحاكم فيها إلى مصطلحات أو مسلّمات
نشأت في عصر من العصور الإسلامية من خلال حركة المجتمع الإسلامي- الذي كان قائما في ذلك الحين- وتفاعل هذا المجتمع مع القرآن والحديث؛ مما نطلق عليه الآن مصطلح «التراث» .
فإذا كنا هنا، أو في هذا التراث- على سبيل المثال- أمام مصطلحي دار الحرب ودار الإسلام، فليس معنى حديث سيد- رحمه الله عن المجتمع الجاهلي أن نسارع إلى تخريجه على دار الحرب، وسحب أحكام هذه الدار- التي ذكرها الفقهاء- على هذا المجتمع بحجة أنه ليس دار إسلام فهو إذن دار حرب! ليس هذا ما عناه سيد- رحمه الله، بل لعل هذا الفهم لكلامه من أسوأ ما يمكن تأويله به أو حمله عليه!.
بل لعل هذا الخطأ في الفهم والتأويل- في هذا المثال ونحوه- جزء من خطأ أكبر في التعامل مع الظلال والأخذ عنه، وهو خطأ اعتماد مفهوم المخالفة لكلام المؤلف- رحمه الله تعالى-، والذي لو طرحه القراء والدارسون في فهم كلامه- رحمه الله لانتهت أكثر المشاكل من أذهان أصحابها والله أعلم.
على أن هذا المفهوم ذاته جزء من المشكلة الرئيسة التي ذكرناها قبل قليل، والتي تكمن في الفهم الجامد أو الراكد، والذي يتعامل مع الذهن والنظر على أرض النظريات الثابتة الملامح والسمات! في حين أن صاحب الظلال- عليه الرحمة والرضوان- كان يحاول تصوير حركة البناء في فهم حي متحرك، أو فيما أسماه- رحمه الله: فقه الحركة، على النحو الذي صورته ودلت عليه الآية القرآنية الكريمة:* وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)[سورة التوبة، الآية 9].
فقد دلت الآية الكريمة على أن الخروج إلى الجهاد هو فقه في الدين،
ودلت كذلك على أن هذا الباب من أبواب الفقه لا يشترط في تحصيله المشاركة العملية فيه من قبل الجميع؛ إشارة إلى أن الأمر ليس كذلك في سائر أبواب الفقه في الدين: عقيدة وشريعة، والله أعلم: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً!
…
وليس من شك- ولا ندخل هنا في الشرح والتفصيل كما قلنا- في أن الفرق كان بعيدا جدا بين طريقة تلقي الصحابة- رضوان الله عليهم- لمثل قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية 17] وتفسيرهم له، وتعاملهم معه- وهم يعلمون دورهم ودور النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإعداد والرمي- وبين طريقة المفسرين من أصحاب المذاهب الكلامية في تناول هذه الآية، أو تفسيرهم لقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [سورة الإنسان، الآية 30]. أو لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد، الآية 11]. فنحن هنا- كما قلت- نواجه مشكلة الركود النظري الذي قد يكون مخلّا بالمدلول الدقيق لهذه النصوص، ونواجه تبعا لذلك مشكلة عدم وضع هذا المدلول في مكانه الحقيقي بين الآيات الأخرى التي تواردت على الموضوع ذاته، وعالجته من زواياه الأخرى المختلفة: العملية والنظرية، والتي رسمت صورته الواحدة في القرآن الكريم. وربما أمكننا القول باختصار: إن التلقّي للتنفيذ، أو الصعيد العملي التطبيقي، مراعى فيه البعد الزمني لنزول القرآن الكريم، هو السبب في عدم نشوء هاتين المشكلتين جميعا عند الصحابة والتابعين على وجه العموم.
ولهذا، فإننا نقول الآن بتقديم أي تفسير لهذه الآيات القرآنية الكريمة، أو للقرآن الكريم على وجه العموم ينجح معه المفسّر في وضع هذه الآيات في موضعها الصحيح الذي ينفي وقوع الإشكال، ويغنينا- تبعا لذلك- عن اللجوء إلى التأويل، كما ينجح في رسم صورة الوحدة الموضوعية للمسألة الواحدة،