الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لا استقام طريقهم فى الحياة، ولملأ الله قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل الله من رزق. هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا.
ولكنّهم كفروا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على المال.. فكان الجري اللاهث فى الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي، والجدب لوجدانى، خاتمة مطافهم وسعيهم.
إنهم لم يتوكلّوا على الله، ولم يعطوه أيديهم ليقودهم إلى الخير، ولو فعلوا لكفل لهم رزقا حسنا، وحياة طيبة، كما يقول الرسول الكريم:«لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خمصا (أي جياعا) وتروح بطانا (أي شبعى) » .
وقوله سبحانه: «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» .
الأمة: الجماعة، والاقتصاد: هو المتوسط فى الأمر، وعدم المبالغة فى مجاوزة حدوده..
والمعنى، أن من هؤلاء اليهود جماعة مقتصدة، أي معتدلة فى زيغها وانحرافها، لم تبالغ فى الزيغ والانحراف، ولم تبعد كثيرا عن طريق الحق..
أما كثرتهم ففى ضلال مبين، وكفر غليظ.
الآية: (67)[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فى هذه المعارض المختلفة، فى زيفهم وطغيانهم، وفيما أخذوا به من نقمة وبلاء، وفى غفلتهم عما بين أيديهم من حق وخير، واتّباعهم لما فى نفوسهم من سراب الأهواء والأباطيل- بعد هذا كان من الله- سبحانه- هذا النداء الكريم، لنبيه الكريم:«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» - فهو أمر ملزم للرسول أن يؤذّن فى الناس بما يتلقّى من آيات ربّه.. «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» .. فتلك هى مناط رسالة الرسول، وفحوى الحكمة من رسالته.. إنه وصلة بين الله والنّاس، وفى هذا يقول الله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» (1: المدثر) ويقول سبحانه: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (94: الحجر) وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» هو تنبيه للرّسول، وإلفات له إلى الأمر الذي دعاه الله إليه، وأنه إن لم يفعل فقد حبس هذا الخير المرسل من الله إلى عباده دون أن يصل إليهم..
وانظر إلى قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» وقف خاشعا بين يدى هذا الأدب السماوي، وأقصر الطرف عن النظر إلى جلال هذا الإنسان العظيم الذي يخلع الله عليه خلعا وضيئة من فيوض رحمته، وغيوث رضوانه، فلا يلقاه ربّه إلا بهذا اللطف العظيم، فى أمر لو وقع لكان داعية للّوم، أو الوعيد بالعقاب الشديد! ولكنه- سبحانه سبحانه- يرفع نبيّه الكريم، عن موطن العتاب، أو اللوم.. فيقول له- جل شأنه- «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» ! ولم يقل سبحانه:«وإن لم تفعل فأنت ملوم، أو مؤاخذ» ..
هكذا أدب السماء مع الأصفياء من عباد الله، وهكذا ألطاف الله مع رسول الله.
ورسول الله خير من يلقى هذا اللطف بما هو أهل له من حمد وشكر، وسيّد من يقوم لهذه الإشارة بما تقتضيه من جدّ وعزم..
فما وهن الرسول الكريم، وما ضعف عن حمل الرسالة، واحتمال ما تنوء به الجبال من أعبائها.. فلكم لقى من السفهاء، والحمقى، والطغاة، من بغى وعدوان؟ حتى لقد خرج مهاجرا من البلد الحرام، الذي عاش فيه شبابه، وقضى فيه أيام صباه، بين أهله وعشيرته، وألقى بنفسه فى أحضان الغربة، فرارا بالرسالة التي بين يديه أن يمسكها المشركون عن أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع العالمين بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» هو من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على نبيّه الكريم، فهو- سبحانه- قد اصطفاه ليكون رسولا للعالمين، حاملا مختتم رسالات السماء إلى الناس.. ثم لم يدعه سبحانه- يحمل أعباء الرسالة، ويلقى الضرّ والأذى فى سبيلها دون أن تكون أمداد سماوية تعينه، وتحمل عنه بعض ما يحمل من أعباء، وكلّا.. فقد أمده الله بأمداد من الصبر واليقين، والعزم، وإذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يواجه قريشا كلها بصلفها وكبرها، وبجبروتها وعتوّها، فلا يلين لها، ولا يحفل بتهديدها ووعيدها.. ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يخوض غمرات الحرب، ويتقدم صفوف الأبطال والفرسان، ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يلقى كيد اليهود ومكرهم، ملاطفا وموادعا، حتى إذا لجّوا فى الضلال، وتمادوا فى الكيد والبغي، صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها.
ومع هذا كله، مما فضل الله به على نبيّه الكريم، من قوة الاحتمال، وثبات الجنان، ووثاقة العزم- يجىء هذا المدد العظيم، من ربّ عظيم، إلى نبى كريم، تحمله كلمات الله إلى رسول الله:«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. فأى نعمة مع هذه النعمة؟ وأي تكريم مع هذا التكريم؟
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ إلى جنابه الكريم، عبده ورسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، وإذا هو فى حمى ربّ العالمين، لا يناله سوء من أحد، ولا يصيبه أذى من إنسان! ..
«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وإنه لو اجتمع الناس جميعا لما نالوا من محمد نيلا.. هكذا كان وعد الله، وهكذا استيقن رسول الله من وعد ربّه..
ولا شك أن هذا من أنباء الغيب، ومن تحدّيات القرآن للكافرين والملحدين والمنافقين.. فلو أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أصيب بأذى بعد هذه الآية الكريمة لكان ذلك دليلا- أي دليل- على أن ما يتقوله الكافرون والمنافقون على القرآن الكريم، وأنه قول بشر، وتلفيقات إنسان..
وإذا علمنا أن هذه الآية فى سورة المائدة، وأن هذه السورة كانت آخر سور القرآن نزولا، على أصح الأقوال، أو أنها من آخر سور القرآن نزولا، بلا خلاف- إذا علمنا هذا أدركنا السرّ فى تأخر هذا الوعد الكريم إلى أخريات أيام الرسول، وإلى مختتم رسالته، وذلك حتى لا ينكشف للرسول وهو قائم على طريق الدعوة، أنّه فى ضمان هذه الحراسة الربانية، وفى ظلّ تلك العصمة التي عصمه الله بها من الناس، وذلك ليكون له بلاؤه، وجهده، وعزمه، فى ملاقاة الشدائد، واحتمال المحن، مستقبلا كل ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه..
أمّا لو كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد تلقّى هذا الوعد الكريم من ربّه من أول خطواته على طريق رسالته، لما كان له فضل فى مكابدة الأهوال، ومصادمة الشدائد، والتعرض للأخطار، ولا سوى فى هذا أوهى الناس عزما، وأقلّهم صبرا، وأجبنهم قلبا، مع أقواهم عزما، وأكثرهم صبرا، وأشجعهم قلبا.. إذ كان كلّ منهما يلقى الموت وهو فى أمان وثيق من أنه لن يموت بيد إنسان.
وقد يسأل سائل هنا: إذا كان ما تلقّاه الرسول من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية» - قد كان فى مختتم رسالة النبىّ، فما محصّل هذا الأمر بالتبليغ، وقد بلّغ الرسول فعلا ما أنزل إليه من ربّه؟ ثم ما محصّل هذه العصمة، وقد استقرّ أمر الإسلام، وانطفأت جذوة أصحاب الشوكة والبغي! والجواب على هذا:
أولا: أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى هذا الخبر المسعد من الله، يراجع خط سيره على طريق دعوته، من أول يوم دعاه الله فيه بقوله:
«قُمْ فَأَنْذِرْ» إلى هذا اليوم الذي كادت الدعوة تنتهى فيه إلى غايتها- فيرى أنه كان فى ضمان هذه الرعاية الكريمة من رب كريم، وأن عناية الله لم تتخلّ عنه لحظة، وأنه كان فى عصمة من الله من أن تناله يد بسوء، يقطع عليه طريق دعوته، ويعجزه عن الوفاء بها.. فها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربّه، وجاهد فى سبيلها، حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وهذا كله من فضل الله عليه، ورعايته له.
ففى هذه المراجعة يرى الرسول مكانته عند ربّه، ومنزلته فى المصطفين
الأخيار من عباده.. فينشرح لذلك صدره، وتنتعش روحه، ويجد فى هذا جزاء طيبا يستقبله من عند الله، وهو يوشك أن يحطّ رحاله بعد هذه الرحلة الطويلة المضنية.
ثانيا: أن انكشاف عواقب الأمور قبل أن تقع، يقطع على الإنسان طريقه إلى العمل والكفاح، ويسلمه إلى استسلام أشبه باليأس، انتظارا للمقدور الذي يسعى إليه، كما ينتظر راكب القطار مجيئه فى موعده المحدد.
إن فى انتظار المجهول إيقاظا للمشاعر، وحفزا للهمم، وتشوّقا إلى ما تكشف عنه الأيام.. فمن يعمل لغاية لا يدرى ما عاقبة أمره فيها، باذلا جهده فى التمرس بالأسباب، هو ممسك بوجوده كله، ينتظر ثمرة عمله، وغاية سعيه الموصلة لها..
إنه إن بلغ الغاية حمد وسعد، وإن لم يبلغها فقد أعذر لنفسه، ورضى عن مسعاه، وإن لم يحصّل منه ما يريد..
فكيف بالرسول، وقد حمل الرسالة، وواجه بها النّاس جميعا، متحدّيا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة، وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة؟ كيف به وقد بلغ بصبره، وجهاده، وعزمه، ما أراد الله لدعوته أن تبلغ؟ إنها سعادة ورضى، وحمد وشكر.. كل أولئك لو قسم فى الناس جميعا لوسعهم واشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى تلك العصمة التي عصم الله بها النبي من الناس، وأنه سبحانه لا يهدى الكافرين إلى طريق الحق، كما أنه سبحانه لا يهديهم إلى الطريق الذي يخلص منه إلى النبي أذى على أيديهم.. فقد سدّ الله عليهم المنافذ التي يبلغون بها ما يريدون به من أذى.. «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) .