الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ»
فقد قلنا إن المراد بآكلى الربا هنا هم المقترضون، لا المقرضون..
ولهذا جاء قوله تعالى هنا: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا» مرادا به المقرضون، وأصحاب الأموال، التي يتعاملون فيها بالربا، ولم يجىء هكذا:«وأكلهم الربوا» لأن اليهود يقرضون ولا يقترضون..
وقوله تعالى: «وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» هو أعمّ من الربا، وهو كل مال جاء من طريق غير مشروع، كالسلب والسرقة، وكالقمار، والخداع، والغش، والرشوة، ونحو هذا..
واليهود يتزاحمون دائما على كل مورد من هذه الموارد، حتى لا يكادون يدعون مكانا لغيرهم من الناس! قوله تعالى:«وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. هو نذير لليهود بالعذاب الأليم فى الآخرة، بعد أن لبسوا البلاء المهين فى الدنيا.. وفى وصفهم بالكفر، والاتجاه بالخطاب إليهم بهذا الوصف، هو لغلبة الكفر عليهم، كما يقول الله تعالى فيهم:«مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) ..
وفى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» استنقاذ لمن خلص بجلده من هذه الجماعة، وخرج عن محيطها، فآمن بالله، وأخلص دينه لله!
الآية: (162)[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
التفسير: الراسخون فى العلم: هم أهل العلم القائم على النظر السليم، والفهم الذكىّ..
وهؤلاء الراسخون فى العلم من أحبار اليهود وعلمائهم- ليسوا على شاكلة قومهم من الكفر والعناد، وقساوة القلب.. بل هم إذ يرون الحق يعرفونه ويؤمنون به، وقد آمنوا بما فى أيديهم من كتاب، كما آمنوا بما نزل على محمد من كلام الله- فهم حيث وجدوا الحق، عرفوه، وانقادوا له، وأسلموا إليه زمامهم.. لا يعنيهم على أىّ يد جاءهم، ولا من أي جهة طلع عليهم..
وهكذا حكم العقل السليم على أهله.. يقودهم إلى الحق، ويجمعهم عليه..
وقوله تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ» هو عطف على قوله تعالى: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ» .. فهؤلاء الراسخون هم والمؤمنون سواء، إذ يلتقون جميعا على الحق:«يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» .
وهؤلاء المؤمنون قد يكونون من مؤمنى اليهود، الذين آمنوا عن استجابة لدعوة الحق، ولم يتّبعوا أهواء أهل الضلال فيهم، فظلوا متمسكين بالعقيدة السليمة التي جاء بها موسى.. فهم مؤمنون.. وهؤلاء لا يرون فى إيمانهم تعارضا مع ما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهم والراسخون فى العلم سواء فى مواجهة الدعوة الإسلامية، إذ يرونها هى والحق الذي فى أيديهم على طريق واحد..
وقد يكون المراد بهؤلاء المؤمنين، المسلمون.. فهم إذ آمنوا بمحمد مدعوون إلى الإيمان برسل الله جميعا، وبالكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء..
قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» هو استئناف لتقرير حكم جديد، لمن
آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ذلك، الحكم هو أن الله سيؤتيهم أجرا عظيما..
ومناسبة هذا الحكم لما قبله، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الراسخين فى العلم والمؤمنين وأنهم يؤمنون بما أنزل على محمد، وما أنزل من قبل- ناسب أن يذكر لهؤلاء آمنوا، أن وراء الإيمان عملا، وأن هذا العمل هو الذي يتمم الإيمان، ويعطى الثمرة الطيبة التي له.. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أبرز عملين من أعمال المؤمنين، وأن الاستقامة عليهما سبب لمرضاة الله، وللأجر العظيم عنده.
وفى عطف قوله تعالى: «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على قوله سبحانه: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» مع الاختلاف فى الصورة الإعرابية بين العطوف والمعطوف عليه- فى هذا ما يدعو إلى التوقف والنظر..
فلم لم يكن المتعاطفون نسقا واحدا، على أية صورة.. بالرفع مثلا، هكذا:
«والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر؟
وقد كثرت فى هذا آراء المفسرين والنحاة.. ولم نر فيما قاله هؤلاء وهؤلاء وجها نستريح له، ونرضى به، ونطمئن إليه.. إذ كلها محاولات لتسوية هذا التخالف، الذي يبدو وكأنه تناقض وخروج على أساليب العرب، ومألوف كلامهم.. وكأنهم- أي المفسرون والنحاة- يلتمسون المعاذير للقرآن، لهذا الخلل الذي ظهر فيه هنا.!!
وللقرآن الكريم، أن يكون متفقا مع قواعد النحاة أو مخالفا لها، جاريا ما عرف من أساليب العرب أو خارجا عنها.. وعلى النحاة أن يصححوا نحوهم عليه، وعلى الأساليب العربية أن تستقيم على ما طلع عليه بها القرآن من أساليب جديدة، وأن تجعلها من مذخورها الذي تحرص عليه، وتثرى باقتنائه، وتعتزّبه.
فلنتحرر إذن من قواعد النحو، وأساليب العرب، حينما نستقبل جديدا من أساليب القرآن وإعجازه، ولنلقه بقلوبنا، لقاءنا لمعجزة قاهرة متحدية..
ونعم، فإننا بين يدى كل آية من آيات الكتاب الكريم، فى مواجهة معجزة متحدية، لا تكشف لنا عن وجهها إلا بعد توقف ونظر.. ولكنا حين نكون بين يدى آية تطلع علينا بأسلوب غير مألوف من أساليب العربية، وغير جار على مقررات النحاة وقواعد النحو- فإننا نكون حينئذ فى مواجهة آية تكشف لنا عن وجه من وجوه إعجازها، وتدعونا إليها، وتحملنا حملا على النظر فى وجهها.
فهنا فى هذه الآية.. دعوة صريحة، وإشارة مضيئة، إلى كلّ من يلتقى بهذه الآية الكريمة أن يقف عندها، وأن يدبر النظر فيها، وأن يسأل نفسه كل تلك الأسئلة التي سألها المفسرون والنحاة، عند ما التقوا أو يلتقون بكلمة:«وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» .
لماذا خالفت نسق ما قبلها؟
ولماذا تخالف نسق ما بعدها؟
ولعلنا لا نقف طويلا عند الإجابة عن السؤال الأول.. إذ نجد الجواب حاضرا قريبا، وهو أنه ليس بين هذه الكلمة وما قبلها صلة عطف، وأن «الواو» التي تسبقها ليست واو عطف، وإنما هى للاستئناف.. إذ قد تمّ الكلام قبلها، واستؤنف بها كلام جديد، لتقرير حكم جديد..
ويبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثاني.. وهو الذي يحتاج إلى طول نظر، وكثير تأمل! وأقلّ ما تخرج من بعد هذا النظر الطويل، وهذا التأمل الكثير هو:
(أولا) : قطع ما بعد الواو فى قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» عما قبلها.. إذ كان لما قبلها شأن، ولما بعدها شأن آخر..