الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقوت الأحياء، ومن بالغ حكمته أن يدعو الإنسان إلى السموّ بروحه، والاستعلاء بذاته.. فذلك هو الإنسان.. أما ماوراء ذلك من ماديات الإنسان فهى تبع، وليست أصلا، وهى ثان وليست أولا.
الآيات: (131- 134)[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
التفسير: فى الآيات السابقة استعرض القرآن الكريم وجوه الناس: من مؤمنين، ومنافقين، وكافرين، وأقام كل فريق منهم بالمكان الذي هو أهل له، من قرب أو بعد من الله، وما أعدّ له من ثواب أو عقاب.. وقد ختمت هذه الآيات باستعراض لقدرة الله سبحانه، وسعة ملكه، وبسطة نفوذه، وذلك فى قوله تعالى:«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» .. ثم تلا ذلك وقفة مع المؤمنين فيما يعنيهم من أمر دينهم، وكان ذلك فى أمور تتصل بالنساء وعلاقة الرجال بهن، وقد جاءهم من الله فى هذا البلاغ المبين..
وهنا فى هذه الآيات استدعاء للناس جميعا، من مؤمنين، وكافرين،
ومنافقين، ليشهدوا جلال الله وعظمته، فيما صوّر وخلق مما فى السموات والأرض، وكلها صنعة يده، وحوزة ملكه:«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ! وفى تقديم الخبر على المبتدأ فى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ما يفيد اختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بالملكية لما فى السموات والأرض.. لا يشاركه فى ذلك شريك..
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» بعد هذا الاستعراض لقدرة الله وسلطانه المتفرد على هذا الوجود- فى هذا جلاء لغشاوات الضلال التي انعقدت على كثير من البصائر فحجبت عنها الرؤية الواضحة لله. فلم تره إلا فى ضباب هذه الضلالات.. ربّا مع أرباب، وإلها فى مجمع من الآلهة..!
فإذا نظر الإنسان إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من آثار رحمة الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، ثم استمع لدعوة الحق سبحانه وتعالى التي يدعو بها عباده إليه:«أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» - كان خليقا به، لو أمعن النظر، وأحسن التفكير- أن يستجيب لدعوة الله، وأن يؤمن به، ويتّقى حرماته.. فتلك هى الصلة السليمة التي ينبغى أن تقوم بين الإنسان وخالقه، وتلك هى الوصاة التي يوصّى الله بها عباده، ويحملها إليهم رسله! «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» .. والمراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، هم اليهود والنصارى، حيث هم الذين التقوا بالمسلمين من أهل الكتاب، وإن كان هناك كثيرون من المؤمنين أصحاب كتاب سماوى، غير اليهود والنصارى، ولكن ذهبوا وذهبت كتبهم، ولهذا كان ذكر أهل الكتاب فى القرآن دائما، مقصودا به اليهود والنصارى وحدهم.
قوله تعالى: «وَإِنْ تَكْفُرُوا» هو مقابل لقوله سبحانه: «أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ»
.. فالمراد بتقوى الله هنا، هو الإيمان به إيمانا صحيحا، غير مشوب بشرك أو ضلال.
وقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أن إيمان المؤمنين وشرك المشركين، ونفاق المنافقين، وكفر الكافرين، كل ذلك لا متعلّق له بالله، إذ لا يؤثر ذلك فى قدرة الله، ولا يزيد أو ينقص من سلطانه شيئا.. فهو المالك لكل شىء والقائم على كل شىء..
ولهذا جاءت خاتمة الآية هكذا: «وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً» أي أنه سبحانه فى غنى عن خلقه، لا ينفعه إيمان المؤمنين، ولا يضرّه كفر الكافرين، وإنما يعود نفع الإيمان أولا وآخرا إلى صاحبه، كما يعود ضرر الكفر أولا وآخرا إلى صاحبه.. والله سبحانه وتعالى يقول:«مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (44: الروم) أي فلأنفسهم يصلحون الطريق الذين يصلهم بالله، ويوصلهم إلى مرضاته ونعيم جنّاته.
والحميد، هو المستأهل للحمد، المستحق له من جميع مخلوقاته، إذ أوجدهم من عدم، وألبسهم نعمة الوجود..
فالحمد لله، هو تسبيحة المخلوقات جميعا، من آمن منهم بالله ومن لم يؤمن، وفى هذا يقول الله تعالى:«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .
وقد يقال: كيف يسبّح الكافر بحمد الله، وهو ينكره ولا يعترف بوجوده؟
والجواب على هذا، أن الكافر إنما هو صنعة الله، وهو يعيش فى ملك، الله ويتقلب فى نعمه، وأنه منقاد لمشيئة الله فى كل نفس يتنفسه، وفى كل
عمل يعمله، ثم هو آخر أمره صائر إلى الله.. إنه لم يخلق نفسه، ثم إنه لن يميت نفسه.. بل الله سبحانه هو الذي أوجده، وهو الذي يميته.. ثم هو الذي تولّاه منذ أوجده إلى أن أماته.. فهو وإن اشتمل باطنه على الكفر بالله، وبفضله عليه، فإن وجوده كلّه وما يحيط به هو صوت جهورىّ، يؤذّن بحمد الله، ويسبّح بآلائه ونعمائه.
قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» تسبيحة أخرى من تسبيحات الحمد لله، والإقرار بألوهيته، والولاء له من مخلوقاته جميعا، وكفى به- سبحانه وتعالى وكيلا، يدبّر أمر هذه المخلوقات، ويقيمها على ما تقضى به حكمته.
وقوله سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» هو تذكير بقدرة الله، كما هو إشارة إلى ضآلة شأن الإنسان الذي يخيّل له من جهله وغروره أنه سيّد هذا الوجود، ثم يمتد به حبل هذا الجهل والغرور، فيحسب أنه هو الذي يخلق، ويرزق، وأنه ليس له خالق أو رازق! وهذا سفه وضلال، فلو شاء الله أن يردّ الناس إلى عدم، كما أنشأهم من عدم، لكان ذلك على الله يسيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
وفى قوله تعالى: «وَيَأْتِ بِآخَرِينَ» إثارة لغريزة حب البقاء فى الإنسان، ودعوة له إلى التشبث بوجوده، وفى ذلك ما يحمله على اللّجأ إلى الله، والولاء له، والتعلق بذاته، حتى لا يقع تحت هذا الحكم الذي يكاد يذهب به مذهب الضياع والفناء.
وهؤلاء الآخرون.. على أية صفة يكونون؟ أهم ناس كهؤلاء الناس، أم مخلوقات من أجناس أخرى من غير جنسهم؟
وإذا كان هؤلاء الآخرون هم صورة أخرى لهؤلاء الناس، فما الحكمة من إذهاب هؤلاء والإتيان بأولئك؟
والجواب- والله أعلم- هو أن يكون هؤلاء الآخرون من عالم الناس..
فهذا هو الذي يحرك مشاعر الغيرة فى هؤلاء الذين يراد بهم التحول عن مكانهم ليشغله غيرهم من بنى جنسهم، حيث لا تكون الغيرة والتنافس إلا بين أفراد الجنس، وبين جماعاته.
ثم إن الناس ليسوا على حال واحدة- وإن كانوا جنسا واحدا- فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وفيهم المهتدون وفيهم الضالون..
وعلى هذا يمكن أن يكون الإذهاب للضالين الكافرين، والإتيان للمؤمنين المهتدين، أو لمن يغلب فيهم الإيمان والهدى على الكفر والضلال.
وقوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» هو دعوة لأولئك الذين يقيمون وجودهم كله على هذه الحياة الدنيا، فلا يلتفتون إلى أمر الآخرة، ولا يعملون لها، وبهذا يضيّقون على أنفسهم، ويحجزونها فى هذه الدائرة المحدودة، مع أنهم- لو عقلوا- لملئوا أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا.. إذ ليس بين الدنيا والآخرة تعارض وتنافر.. فالدنيا- فى حقيقتها- مزرعة للآخرة، وإحسان العمل فى الدنيا، وإقامته على وجه صحيح مثمر، هو فى ذاته عمل للآخرة.
قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي أنه سبحانه وتعالى مطّلع على أعمال العباد، يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، فما كان من أعمالهم وأقوالهم خالصا للدنيا وحدها، فقد استوفوا حظهم منه، ولا نصيب لهم فى الآخرة.. وما كان منها للدنيا والآخرة معا، كان لهم منه نصيب فى الدنيا وفى الآخرة.. أما نصيب