الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندها، فإن ما بعدها هو الضلال والكفر.. «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . (32: يونس)
الآيات: (78- 81)[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
التفسير: الذين كفروا من بنى إسرائيل هم عامّة بنى إسرائيل ومعظمهم، ولم يجىء النصّ القرآنى عامّا شاملا بلعن بنى إسرائيل جميعا حتى لا يدخل الذين سلم لهم دينهم منهم، تحت هذا الحكم، فيكون ذلك مدعاة إلى سوء ظنّهم بأنفسهم.. أولا، وبالله.. ثانيا.
ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآنى قد حمل- معه إلى جانب اللعنة التي رمى الله بها هؤلاء القوم- حمل وصفا كاشفا لهم، وهو أنهم كفروا، ولو جاء النظم القرآنى هكذا:«لعن بنوا إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم» لدخل معهم فى هذه اللعنة الذين آمنوا منهم، ثم لم يكن هذا الوصف بالكفر مصاحبا لتلك اللعنة صبّت عليهم.
وقوله تعالى: «عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي أن الله وجّه حكمه باللعنة على الذين كفروا من بنى إسرائيل، محمولا على لسان داود وعيسى
ابن مريم.. فقد لعنهم الله سبحانه مرتين.. مرة على لسان «داود» ، ومرة على لسان «عيسى» عليهما السلام.
ولا نسأل ماذا كانت لعنة داود لهم، ولا عن أي شىء كانت تلك اللعنة التي رماهم الله بها على لسان داود، وكذلك الشأن فى اللعنة التي جاءتهم على لسان المسيح.. فقد غيّر القوم وبدّلوا فى زبور داود، وفى إنجيل عيسى.
والذي علينا أن نؤمن به، هو أن الله لعن اليهود هذه اللعنات على لسان هذين النبيين الكريمين.
قوله تعالى: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» هو بيان لسبب آخر من أسباب اللعنة التي لعن الله بها بنى إسرائيل، وهى أنهم مع عدوانهم على حرمات الله، وتطاولهم على أنبيائه بالتكذيب وبالقتل، فإنه لم يكن فيهم من رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، ويردّهم عن هذا الضلال.. «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» أي لا ينهى محسنهم مسيئهم، ولا يأخذ عالمهم بيد جاهلهم، فلا تناصح بينهم على معروف، ولا تناهى عن منكر.. وليس هذا شأن الجماعة السليمة، المتنبهة لكل آفة تعرض لأى عضو من أعضائها.
فجماعة اليهود جماعة يعيش كل فرد فيها فى ذات نفسه، لا يعنيه إلا ما يتصل به اتصالا مباشرا، ولا عليه أن يهلك الناس جميعا.. وليس هذا شأن عامتهم وحسب، بل هو شأن رؤسائهم وأصحاب السلطة الروحية فيهم، وقد نصّ الله عليهم ذلك بقوله:«لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63: المائدة) .
وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو تجريم لأفعال اليهود جميعا، عامتهم وخاصتهم، علماؤهم وجهلاؤهم.. أفعالهم كلها منكرة، لا تتحرّى الحق، ولا تستقيم عليه.
وقوله تعالى: «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الضمير فى «منهم» يعود إلى علماء اليهود، وخاصتهم، وأنّهم يعطون ولاءهم ومودتهم للذين كفروا من مشركى العرب، ومن كافرى اليهود أنفسهم، ليظاهروهم على الدعوة الإسلامية، وليقودوا جبهة الكفر المتصدّية لها.. وهذا منهم هو كفر فوق كفر، وضلال فوق ضلال.. إذ لم يكفهم أنهم عرفوا الحق وكتموه، بل أجلبوا عليه الأعداء، وكانوا لهم فى حربه سندا وظهيرا..
فاستحقوا لهذا سخط الله عليهم، وأن يصلوا النار التي أعدّها للعصاة المحادّين لله ورسوله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» .. وقوله تعالى: «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» هو مصدر مؤول، وهو المخصوص بالذم أي بئس شيئا قدمته لهم أنفسهم، وأعدته ليوم الجزاء، سخط الله ولعنته لهم فى الدنيا، والعذاب الشديد يوم القيامة فى جهنم خالدين فيها أبدا.
قوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» هو بيان لهذا المرض الخبيث المستكنّ فى قلوب هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، وهو أنهم قد أعمى بصائرهم بالحسد، فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وكفروا بالله، إذ كفروا بالنبيّ وما أنزل إليه من ربه، وكان ما بأيديهم من دلائل تدل على نبوته، وما عندهم من علم به وبرسالته- جديرا بأن يجعلهم أسبق الناس إلى لقاء هذا النبىّ، والإيمان به، والوقوف من ورائه، والجهاد تحت رايته.. ولكنهم تخلّوا عن مكانهم هذا، الذي كان ينبغى أن يأخذوه مع النبي، وانحازوا إلى جهة الكافرين والمنافقين..
حسدا وبغيا.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» هو حكم على الكثرة
الغالبة من علماء اليهود بالفسق، والخروج عن الطريق القويم، طريق الحق والنور، إلى طريق العماية والضلال.. وإن قليلا منهم هو الذي سلم فلم يقع تحت طائلة هذا الحكم.
ولسائل أن يسأل: كيف يحكم على اليهود بالكفر، مع أنهم أهل كتاب، وأنهم يؤمنون بالله، وأن الإسلام قد وضعهم وضعا خاصا فى أحكامه، فجعلهم أهل ذمّة، وسمح لهم أن يعيشوا فى المجتمع الإسلامى، وألا تهدم بيوت عبادتهم، وألا يحال بينهم وبين أن يؤدوا شعائر دينهم فيها.. كيف هذا؟
والجواب من وجوه:
فأولا: هم كافرون- لا شك فى هذا- لأنهم اجترءوا الله، فنبذوا كتاب الله الذي فى أيديهم، وحرّفوه، ثم ما بقي بأيديهم منه لم يستقيموا عليه، بل تأولوه تأويلا فاسدا، يجرى مع أهوائهم وما يشتهون.. فهم- وإن لم ينكروا الله- قد حاربوا الله، واستخفّوا بكلماته، وجعلوها تبعا لأهوائهم، ولم يجعلوا أهواءهم تبعا لها.
والكافر بالله، والمنكر له، وإن غلظ جرمه. وعظم إثمه- هو أخفّ جرما، وأقل إثما، ممن عرف الله واستخفّ به، وأعلن الحرب عليه، فشوّه وجه كلماته، وأراق دم أنبيائه.
وثانيا: هم كافرون- لا شك فى هذا أيضا- لأنهم أنكروا نبوّة النبىّ، وبهتوه، وكفروا بما أنزل عليه، وهم يعلمون- بما فى أيديهم من كتب الله- أنه رسول من عند الله، وأن الآيات التي بين يديه هى كلمات الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ»
(89- 90: البقرة) فلقد دمغهم الله- سبحانه- بالكفر أكثر من مرة.. «كَفَرُوا بِهِ» ..
«فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .. «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» .. «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» .
فهذا بعض ما وصفهم الله به فى هاتين الآيتين، وقد توعدهم الله سبحانه باللعنة، ورماهم بالغضب بعد الغضب، ورصد لهم العذاب المهين يوم القيامة» ..
وثانيا: إن تصوّر اليهود لله هو تصور خاطئ فاسد، إذ يرون الله هو إله اليهود وحدهم لا يتعامل مع غيرهم، ولا يعمل لأحد سواهم، ولا يشغل إلّا بهم وبمشكلاتهم.. فهو «رب الجنود» يقودهم فى ميادين القتال، بل ويقاتل لهم وهم ينظرون، كما قالوا لموسى:«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) .
وهذا تصور خاطئ لله رب العالمين.. إنهم لا يرونه إلا أشبه بإنسان يملك قوى خارقة لا يملكونها، أشبه بآلهة الأساطير التي تولدت فى خيال الوثنيين لتحقق لهم أحلاما قصرت أيديهم عن تحقيقها.. ولهذا، فقد طلبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة، أي عيانا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55 البقرة) ..
هذا هو إله اليهود الذي يؤمنون به.. إنه إلههم وحدهم.. أما هذا الوجود فله إله أو آلهته.. وذلك كفر، أو شرك، أو فسق.. وقد صف صف اليهود بهذه الصفات جميعا..
ورابعا: جعل الإسلام أهل الكتاب أهل ذمّة ولم يأخذهم بما أخذ به غيرهم ممن لا كتاب لهم من المشركين والكافرين، كالصائبين والمجوس، ومشركى العرب وغيرهم، لأنهم على شبهة من دين، ولهذا لم يقم عليهم حدّ القتل، إذ كان من أصول الإسلام:«درء الحدود بالشبهات» ..
فهم- أي أهل الكتاب- كافرون، ولكن كفرهم مشوب بإيمان باهت.. وهذا الإيمان على ما فيه، لا يرفع عنهم الحكم- ديانة- بأنهم كافرون، ولكنه يرفع عنهم إقامة حدّ الكفر عليهم بقتلهم، إذا وقعوا فى حوزة المسلمين وصاروا إلى أيديهم، وأبوا أن يدخلوا فى الإسلام..
فهذا الكفر المشوب بالإيمان، أو الإيمان المختلط بالكفر، يعصم دماءهم، وأموالهم، ويجعلهم ذمة فى يد المسلمين.. وفى هذا يقول الله تعالى:«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» (29: التوبة) .. فهذه الجزية التي تؤخذ منهم، وهذا الصّغار الذي ينضح عليهم من الجزية التي يؤدونها- هو تعزير لهم على جناية الكفر الذي حالت دون إقامة الحدّ عليهم فيه، شبهة الإيمان المختلط بكفرهم.
تم الكتاب الثالث، ويليه الكتاب الرابع فى تفسير الجزءين السابع والثامن.. إن شاء الله؟ المؤلف