الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريقا إلى تزيين الحرام، وإلباسه زىّ الحلال المباح، فذلك تمويه على النفس، وخداع لها.. وإن الحلال بيّن والحرام بيّن.. وإن إغماض العين عن الحرام، وأخذه مأخذ الحلال، لن يغير من صفته، ولن يقيم للإنسان عذرا عند الله، بل إن ذلك نفاق مع الله، ونفاق مع النفس، وهو أشد من الكفر.. ضلالا، وبلاء..
إن دين المرء أمانة بينه وبين ربه.. ليس لأحد سلطان عليه فى حفظ هذه الأمانة أو تضييعها، فله أن يحفظ أو يضيّع، وحسابه بعد ذلك على الله، وهو خير الحاسبين..
الآيات: (26- 28)[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
التفسير: فى هذه الآيات الثلاث التي جاءت تعقيبا على تلك الأحكام التي شرعها الله للمسلمين، ووضع بها الحدود لما حرّم وأحلّ من النساء، ولما أباح من التزوج بالإماء لمن عجز عن التزوج بالحرائر، وخشى العنت- فى هذه الآيات الثلاث يكشف الله سبحانه وتعالى عن رحمته بالناس، فيما شرع لهم، وفضله عليهم فيما أباح لهم من طيبات، وفى هذا وذاك خير الناس وسعادتهم، إذا هم استقاموا على شرع الله، ووقفوا عند حدوده.
وقد صدّرت الآيات الثلاث بقوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ» ، وفى ذلك ما يلفت النظر، ويدعو إلى التوقف والتأمل..
فإرادة الله سبحانه وتعالى، نافذة، لا مردّ لها، ولا معوق لنفاذها وإمضائها على الوجه الذي أراده..
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وقد تعلقت بإرادة الله هنا أمور، تضمنتها الآيات الثلاث هى:
أولا: بيان الأحكام، ووضع الحدود للمسلمين بين الحلال والحرام:
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» .
ثانيا: أخذ المسلمين بالسنن التي أخذ الله بها الأمم من قبلهم، يبيّنها الله لهم ويهديهم إليها:«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .
ثالثا: التوبة على المسلمين، مما ارتكبوا من آثام وخطايا.. «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» .
رابعا: التوبة التي يريدها الله للمسلمين، يعارضها من جانب آخر، المفسدون وأصحاب الأهواء، إذ يريدون لهم الميل عن الصراط المستقيم الذي دعاهم الله إليه، وانحرافهم انحرافا حادا عنه. «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» خامسا: التخفيف عن المسلمين فيما أخذهم الله به من أحكام، حيث أنه سبحانه وتعالى يعلم ما فى الإنسان من ضعف، وما فى كيانه من قوى تنزع به إلى التخفف من أوامر الله، والتحلل من نواهيه.. «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» .
والسؤال هنا: ماذا عن هذه المتعلقات التي تعلقت بإرادة الله؟ وهل هى ماضية نافذة؟.
وهل لو كانت قد مضت ونفذت، أكان فى المسلمين المخاطبين بكلمات الله هذه، منحرف أو ضال؟
وكيف وهذه أحكام الله بيّنة، وحدوده واضحة؟ وكيف وإرادته متجهة إلى هدايتهم والتوبة عليهم؟
والذي نحبّ أن نفهم عليه إرادة الله سبحانه وتعالى هنا، وفى غيرها من المواضع المشابهة- هو «الطلب» غير الملزم، حتى يكون للإنسان مجال للاختيار بين الاستجابة للطلب، أو التأتّى عليه، وبهذا يشعر الإنسان بوجوده الذاتي، وبالمسئولية الملقاة عليه.. وعلى هذا يكون حسابه وجزاؤه، بالخير خيرا، وبالشر شرا.. وذلك فى كل أمر للإنسان فيه إرادة وعمل.. أما حين لا يكون لما يريده الله متعلّق بعمل العبد، فهى إرادة مطلقة نافذة..
فالإرادة فى قوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. إرادة خالصة لله، لا متعلّق للعباد بها، لأنها تتعلق بشرع الله الذي يشرعه للمسلمين، كما شرعه لعباده من قبل على يد أنبيائه ورسله.. وعلى هذا فهى إرادة نافذة.. لأنه لا متعلّق للعباد بشرع الأحكام، وإقامة حدودها.
أما الإرادة فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» فهى إرادة طلب، ودعوة، متجهة إلى العباد، ولهم أن يستجيبوا لهذا الطلب وأن يلبّوا تلك الدعوة، أو يتوقّفوا.
فالله سبحانه، قد دعا عباده إلى التوبة، فى آيات كثيرة.. فقال تعالى:
«وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31: النور) وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (8: التحريم) .
فمطلوب من العباد أن يتقدموا إلى الله بالتوبة، فإذا تابوا تاب الله
عليهم.. كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» (25: الشورى) ويقول جل شأنه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) .
وفى الإنسان نوازع تنزع به إلى الهوى، وتدفعه إلى الخروج على الطريق المستقيم، الذي دعاه الله إليه.. وفى محيط الإنسان شياطين من الإنس والجن، توحى إليه بالشر، وتوسوس له بالسوء، فيلتقى ذلك مع أهوائه ونوازعه، وهنا يقع الصراع بين ما فى قلبه من إيمان وتقوى، وبين هذه القوى المسلطة على إيمانه وتقواه.. فيكسب المعركة أو يخسرها، حسب بلائه فيها، وبذله لها.
وبهذا يكون النصر محسوبا له، على حين تكون الهزيمة محمولة عليه.. وفى هذا يتفاوت الناس، ويختلفون منازل ودرجات عند الله، كلّ حسب عمله وبلائه.
وأمّا إرادة التخفيف عن المسلمين، فيما أخذهم الله به من أحكام، فهى من حكمة الله، ورحمته، ليس لأحد أن ينازع الله فى حكمته، أو يمسك عن عباده مواطر رحمته.. لأنه لا متعلق لأحد بهذه الإرادة، ولا مطلوب فيها لأحد.. إنها خالصة من الله، لعباد الله.
فالإرادة الإلهية، تكون تارة بمعنى الطلب، وهو أن يطلب الله سبحانه وتعالى من عباده أمرا، يدعوهم إلى تلبيته، والاستجابة له، لما فيه من خيرهم، وإسعادهم.. وهذا الطلب من الله، لا إلزام فيه، ولا قهر معه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) .
وتارة تكون الإرادة الإلهية بمعنى القضاء والحكم، وتلك إرادة نافذة لا تردّ.. «سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (35: مريم) .. «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (22: التوبة) .