الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففى جهنم التي هى مثوى هؤلاء المكذبين بآيات الله، ألوان من العذاب لا تنتهى.. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» ليعيشوا هكذا فى عذاب دائم..
والجلد هو حاسة الإحساس فى الإنسان، ولذا كان العذاب الأخروىّ واقعا عليه، وكانت النار التي تتصل به أشبه بثوب من النار ذاتها، كلما بلى هذا الثوب، تجدّد لأصحاب النار ثوب آخر مكانه!.
وفى مقابل هذا العذاب الذي يصلاه الكافرون، تقوم الجنّة التي ينعم فيها المؤمنون، بما أعد الله لهم، من نعيم مقيم، لا ينفد أبدا..
وفى مواجهة أصحاب الجحيم لأهل النعيم وما يلقون من كرامة وتكريم، وفى اطلاع أهل النعيم على أهوال الجحيم، وما يلقى المعذبون فى نار جهنم، من نكال وبلاء- فى هذا ما يضاعف لأهل النار ما هم فيه من محن وأهوال! كما يضاعف لأهل الجنة ما هم فيه من نعيم ورضوان.
الآيتان: (58- 59)[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
التفسير: الأمانات التي يأمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها، كثيرة، متنوعة، وأهلها كثيرون مختلفون! فهناك أمانة عامة حملها أبناء آدم جميعا، هى أمانة التكليف، التي أبت عوالم السماء والأرض أن تحملها، وأشفقت من حملها، والقدرة على الوفاء بها..
وأمانة التكليف هذه، هى التي أفردت الإنسان عن سائر المخلوقات، بالعقل، الذي به أصبح الإنسان سيد نفسه، بما له من قوى التفكير، والتقدير، والإرادة.. فإن شاء تقدم، وإن شاء تأخر، حسب ما يرى ويقدّر! ولهذا كان عالم الناس مجموعة عوالم، بعدد أفراد الناس، فردا، فردا..
فكل إنسان عالم وحده، فى تفكيره، وتقديره، وعواطفه، ومنازعه، وسلوكه، حتى لا يكاد يتساوى إنسان وإنسان بحال أبدا.. على خلاف الكائنات الأخرى، علويّها وسفليّها.. كل عالم منها ينتظم جميع أفراده، التي لا يختلف.
فيها واحد عن آخر، حتى لكأنها عدد مكرر من أعداد الحساب! وهذا التفرد الذي كان للإنسان، هو طموح جامح، منّته به نفسه الغرور، فارتفع إلى المستوي الرفيع الذي إن زلّت به قدمه فيه، سقط من علو شاهق، وهوى إلى أسفل سافلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 5- 6: التين) فالإنسان إذ حمل هذه الأمانة- أمانة التكليف- أصبح سيّد الكائنات كلها، لا سيّد فوقه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو بهذا الخلق القويم الكريم ظلّ الله فى هذا الوجود، تتخايل فيه لمحات من علم الله، وقدرته، وإرادته، وكثير من صفاته، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا عن الشبيه والمثيل!
وعلى هذا يمكن أن يفهم ما تحدّث به التوراة عن الله تعالى: «وقال الله:
نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا.. فخلق الله الإنسان على صورته..
على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم الله.» «1»
وإذ حمل الإنسان هذه الأمانة، وتحدّى الموجودات كلها، التي أشفقت من حملها، فإنّ من البر بنفسه، والكرامة لإنسانيته، أن يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، وأن يرعى هذه الأمانة حق رعايتها، وأن يؤديها إلى أهلها، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك بالتعرف على الله والإيمان به أولا، ثم الاستقامة على طريق الحق والخير على ما شرعه الله ورسمه.
وأداء هذه الأمانة على وجهها، هو ضمان وثيق لأداء الأمانات كلها، لأن كل أمانة بعد هذا هى بعض من تلك الأمانة الكبرى، وأثر من آثارها.. فما بين الناس والناس من أمانات ماديّة، وعقود، وعهود..
هو مما يندرج تحت هذه الأمانة وينضوى إليها..
وقوله تعالى: «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» هو استنجاز لأداء بعض الأمانة التي حملها الناس.. وهى الحكم بالعدل بين الناس.. لأن العدل صفة من صفات الله، وفى الإنسان لمحة من هذه الصفة..
وفى خروجه عن العدل، خيانة للأمانة التي حملها، وجناية على نفسه، وردّة لها إلى أسفل سافلين.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» تحريض قوي على امتثال هذا الأمر الكريم، وتلك الموعظة الحسنة، لأنها دعوة من الله إلى خير، ولا يدعو الله إلا إلى الخير ولا يأمر إلا بالخير..
(1) التوراة: سفر التكوين- الإصحاح الأول.
«ونعمّا» هى فعل مدح، أصله «نعم» و «ما» التي هى نكرة بمعنى شىء، ليفيد هذا التنكير التعميم والشمول.. فكل ما يعظنا به الله، ويدعونا إليه هو خير، وخير مطلق.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» هو استنجاز آخر لأداء بعض ما يتعلق بالأمانة الكبرى التي حملها الإنسان، وهو طاعة الله والرسول، وأولى الأمر..
فالانقياد لله هو المظهر العملىّ الواضح لأداء هذه الأمانة، وغير هذا الانقياد هو التضييع للأمانة، والعدوان عليها..
والانقياد لله يتبعه الانقياد لرسول الله.. إذ كان هو السفير بين الله وبين عباده، وهو الحامل لكلمة الله إليهم، والمؤذّن بها فيهم.. فلا انقياد لله لمن لا ينقاد لرسول الله..
وأولو الأمر.. هم من يلون أمر الإنسان، ويقومون على رعاية مصالحه، من آباء، وقادة، وحكام.. وغيرهم، ممن لهم على الإنسان سلطان أدبى أو مادىّ.
والانقياد لأولى الأمر ليس انقيادا مطلقا، بل هو انقياد محكوم بحدود العدل، والخير، والإحسان..
ولهذا كانت طاعة الوالدين- وهما فى المقام الأول من أولى الأمر- قائمة على سنن المعروف، فإن دعوا إلى منكر، فلا طاعة لهما، وفى هذا يقول الله تعالى:«وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (15: لقمان) .
فالولاية إذا لم تكن ولاية راشدة حكيمة، مستقيمة مع العدل والإحسان
كان لمن تحت ولايتها أن يراجعوها، وأن ينصحوا لها، وأن يعملوا على تبصرتها بالطريق القويم، الذي فيه خير الجماعة كلها..
فإن كان خلاف بين أولى الأمر، وبين من فى ولايتهم، ولم يلتقوا عنده على كلمة سواء.. كان الحكم بينهم فى هذا، كتاب الله وسنّة رسول الله، فذلك هو الميزان العدل، الذي توزن به الأمور، وما يقضى به هنا كان هو الحق والخير، وكان التزامة أمرا واجبا.. من أباه، وخرج عليه، كان متعديّا حدود الله، آثما ظالما.. تجرى عليه أحكام الآثمين الظالمين..
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ما يشير إلى احتمالات النزاع المتوقعة بين أولى الأمر ومن فى ولايتهم، وأن ذلك أمر غير مستبعد، بين الناس والناس.
فإذا وقع نزاع فى أمر ما، كان ردّه إلى حكم الله ورسوله أمرا واجبا على المؤمنين، وكان الله سبحانه وتعالى هو وليّهم جميعا، وكانت شريعته لهم، هى الدستور الواجب اتباعه، والاحتكام إليه فيما يقع بينهم من خلاف..
فمن كان مؤمنا بالله واليوم الآخر، استقام على شرع الله، ووقف عند حدوده، وخضع لحكمه.
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» إشارة إلى أن الرجوع عند الخلاف إلى ما قضى به كتاب الله وسنة رسوله، هو الطريق المأمون، الذي يسلم المختلفين إلى يد الوفاق والسلام، حيث كان احتكامهم إلى أحكم الحاكمين، الذي يحكم بين عباده بالحق، فلا ميل مع هوى، ولا محاباة لكبير