الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا كما يبقى الحريق على بعض ما اشتمل عليه، وكما يبقى البحر على بقايا سفينة غارقة! وقوله تعالى:«فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» هو توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل هذه الجماعة القليلة التي سلمت وأسلمت من اليهود، وألا يأخذها بجريرة الكثرة الكثيرة منهم! وألا ينظر إليها من خلال موقفها من النبي أول الدعوة، فقد كان اليهود جميعا على عداوة وحسد للنبى..
الآية: (14)[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
التفسير: قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» ، هو معطوف على قوله سبحانه فى الآية (13)«لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
وبين المعطوف والمعطوف عليه صلة: إذ كانت دعوة المسيح خاصة باليهود، كما يقول المسيح عن نفسه فيما تروى عنه الأناجيل:«أنا لم أرسل إلّا إلى خراف إسرائيل الضالة» ولهذا كان حواريوه كلهم من اليهود، كما كانت معجزاته لليهود، وفى اليهود، حتى إنه- عليه السلام أبى على المرأة الأمميّة- أي من غير اليهود- أن يشفى ابنتها مما كانت تعانى من داء، وقال لها تلك القولة التي روتها الأناجيل عنه: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيداء،
وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود.. ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال:«لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة» (متى: 15) .
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا» به إشارة إلى أن هؤلاء النصارى الذين أخذ الله عليهم الميثاق كانوا من اليهود، الذين اتبعوا المسيح.. والمعنى:«ومن اليهود الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وفى هذا تشنيع على اليهود أيضا، إذ كانوا دائما على هذا الخلق اللئيم فى المكر بآيات الله، ونقض المواثيق التي واثقهم الله بها.. فهم فى ثوب النصرانية كما هم مسلاخ اليهودية، وهم فى اتّباعهم لعيسى كما هم فى أخذهم لشريعة موسى.. كفر مع كفر، وضلال إلى ضلال.
وفى قوله تعالى: «نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» إشارة إلى أن أتباع المسيح قد تأولوا دعوته على غير مدلولها الذي أقامهم عليه، وعاش فيهم به.. فلم يكن فيهم إلها ولا ابن إله، ولم يؤمن به الذين عاشوا معه على أنه إله أو ابن إله، ولم يقل أصحاب الأناجيل الأربعة- وفيهم اثنان من الحواريين- أنه إله ولا ابن إله، وإنما كانوا- كما تحدث الأناجيل- ينادونه: يا معلم، يا سيد، وأن أعظم صورة تصوروها له: أنه يوحنّا المعمدان، بعث إليهم من جديد! فنسيان حظهم مما ذكّروا به هو هذا التأويل الفاسد لما فى الأناجيل، ولو أنهم استقاموا عليها لما وقع لأحد من أتباعه أن المسيح إله، أو ابن إله! وقد عرضنا هذه القضية من قبل، عند تفسير الآيات الأخيرة من سورة النساء.
قوله تعالى: «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو بيان لثمرة هذا النسيان المتعمد، وذلك التأويل الفاسد لكلمات المسيح وتعاليمه، من
أتباعه من اليهود. فقد أشاع اليهود من أتباع المسيح أنهم هم الذين وجّهوا دعوته تلك الوجهة فأخرجوها على هذه الصورة التي لبس المسيح فيها ثوب الألوهية، وقام فيها مقام الله.. ولعلنا نذكر هنا دور «بولس الرسول» وهو يهودى، ومن أتباع المسيح، وحامل لواء التبشير بالمسيحية خارج دائرة اليهود. فقد كان هو الذي أباح ما حرمته الشريعة من حلّ لحم الخنزير، والتحلل من الختان، بل وحرمته، دون أن يلتفت إلى أن المسيح نفسه قد ختن، حسب الناموس! وثمرة هذا النسيان المتعمد هى هذا الخلاف الشديد بين أتباع المسيح..
ذلك الخلاف الذي لا تزيده الأيام إلا عمقا واتساعا، إذ أباح هذا التأويل الفاسد حرمة الأناجيل، وجعل لكل ذى نظر أن يتأول ما يشاء، ويقول ما يريد، بعد أن أهدرت معانى الكلمات المقيدة بألفاظها، وأصبحت الألفاظ رموزا وإشارات، وأحلاما وأضغاث أحلام، يتأولها كل حسب رأيه واجتهاده، غير مقيد بقيد، ولا محتكم إلى لغة.
وهذه العداوة ليست عداوة ترجع إلى اجتهاد فى فهم النصّ، بقدر ما هى عداوة ترجع إلى تضارب الأهواء، واختلاف المنازع، ومن هنا لم تكن مجرد عداوة بين علم وجهل، بل كانت عداوة محملة بشحنات ثقيلة من البغض والكراهية، لأنها عداوة بين هوى وهوى ومشرب ومشرب! ثم إن هذه العداوة المحملة بأثقال البغضاء ليست عداوة موقوتة بوقت، ولا محدودة بزمن.. وإنما هى عداوة موصولة، متجددة، لا تنقطع أبدا:
قوله تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي سيعلمون يوم القيامة فساد هذا الذي صنعوه، وغيرّوا به وجه رسالة المسيح ودعوته..
وفى لفظ «يصنعون» دلالة على أن أسلوبهم هذا الذي جروا عليه مع
كلمات المسيح وتعاليمه- لا ينقطع أبدا، وأن هذه الكلمات وتلك التعاليم، ستلد كل يوم مواليد جديدة من التأويل والتخريج.. فما يكون حلالا اليوم قد يصبح حراما غدا، وما هو حرام غدا يكون حلالا بعد غد.. وهكذا..
وصدق الله العظيم، وصدقت كلماته وآياته، المنزلة على النبي الكريم، الصادق الأمين.
فلقد رأينا كيف كان للمجمع المقدس، الذي انعقد فى «روما» فى هذه الأيام «1» أن يخرج على العالم المسيحي بهذا الرأى الذي يجبه معتقدا عاشت فيه المسيحية، واعتنقه المسيحيون قرابة ألفى عام- وهو أن اليهود قد صلبوا المسيح، وحملوا تبعة دمه، هم وأبناؤهم من بعدهم.. إذ قالوا حين قدموه للصلب، كما روت الأناجيل «دمه علينا وعلى أبنائنا» فجاء المجمع المقدس يبرىء اليهود من دم المسيح، ويقول:«إذا كان اليهود الأولون هم الذين صلبوا المسيح واحتملوا دمه.. فما ذنب أبنائهم من بعدهم؟» .
وهذه قضية لا دخل للإسلام بها، إذ ينكرها من أصلها.. ولكن الذي نريد أن نقوله هنا- لحساب العقل والمنطق-: ما هو الحكم الذي يحكم به المجمع المقدس على أتباعه الذين عاشوا خلال الألفى عام يتعبدون بلعن اليهود، ويتقربون إلى المسيح بهذه اللعنات التي يسبّحون بها صباح مساء؟ ثم على من تقع تبعة هذه الدماء الغزيرة التي أراقها أتباع المسيح فى مدى هذه الأزمان المتطاولة- من اليهود، انتقاما للمسيح، وتشفيّا ممن تطاولت أيديهم إلى إلههم المعبود، حتى علقوه على خشبة الصليب وسقوه المرّ المذاب؟ ثم ألا يحقّ لليهود اليوم أن يطالبوا القائمين على أمر المسيحية بديت ملابين القتلى منهم؟
(1) كان انعقاد هذا المجمع فى خريف عام 1964.