الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار» قيل هذا القاتل.. فما شأن المقتول؟ قال:
وهذا يعنى أن جريمة القتل التي تقع نتيجة للصراع بين اثنين، هى جريمة مشتركة بينهما، وإثمها واقع عليهما معا.. يقتسمانه على السواء.. أما أن أحدهما كان البادئ المعتدى، والآخر المدافع الذي يدافع عن نفسه، فذلك له حكم آخر غير جريمة القتل التي وقعت.. إذ لا شك أن البادئ بالعدوان، عليه تبعة هذا الموقف العدوانىّ الظالم، وعليه عقاب المعتدين الظالمين.. أما جريمة القتل فهى أشنع وأفدح من أن يحتملها إنسان، ومن هنا كانت آثارها السيئة تفيض عن القاتل، حتى لمسّ البريء المقتول.
الآيات: (30- 31)[سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
التفسير: انتهى الموقف بين الأخوين إلى تلك النهاية السيئة، فسمحت نفس الأخ، واتسعت لقبول هذا المنكر الغليظ، فقتل أخاه، وأخمد أنفاسه، ظلما وعدوانا.. فكتب بيده وثيقة خسرانه، وسطّر بهذا الدم البريء المسفوك، الحكم- بإدانته، وسوء مصيره! وقوله تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» .
يقول المفسرون لهذه الآية: إن الله بعث بين يدى قابيل غرابين، اشتبكا فى صراع، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فواراه فيها، فعجب قابيل لهذا، ورجع على نفسه باللائمة أن عجز عن أن يفعل ما فعل الغراب إذ وارى جثة قتيله.. ومن هذا العمل الذي عمله الغراب أخذ قابيل بما دلّه عليه الغراب، فحفر لهابيل حفرة، وأودعه فيها! وممكن أن يقع الأمر على هذه الصورة، إذا جعلنا فى الحساب ما يقول به المفسرون من أن هذا كان أول قتيل من بنى آدم، وأنه لم يكن مما علمه أبناء آدم كيف يفعلون بموتاهم أو قتلاهم..
ولكن لنا على هذا اعتراضات:
أولها: أننا لا نسلّم بأن هذه الحادثة كانت أول حدث يقع بين ولدين لآدم.. إذ أن لنا فى آدم مفهوما غير هذا المفهوم الذي يرى أن آدم كان سماوىّ المولد، وأنه خلق ابتداء على صورة الإنسان هذه.. ولو سلّمنا بهذا فإنّا لا نسلم بأن هذا النزاع كان أول نزاع وقع فى الأرض، وأنه كان بين ابني آدم، الأب الأول للإنسانية كلها..
وثانيها: أننا إذا سلمنا بأن هذا القتيل كان أول قتيل فى الأرض- فكيف تكون عملية القتل وإزهاق الروح معلومة لابن آدم هذا؟ وكيف يتوعد أخاه ويتهدده بقوله: «لَأَقْتُلَنَّكَ» ؟ كيف يقول هذا وهو لا يعرف القتل، بل ولا يعرف الموت بعد؟ ولو عرفه لعرف- تبعا لهذا- الأسلوب الذي يتخذ مع الموتى أو القتلى، بعد موتهم أو قتلهم!!
وثالثها: أن الآية صريحة فى أن المبعوث هو غراب لا غرابان..
ولو كانا غرابين لذكرتهما الآية..
ورابعها: أنه لو وقع بين الغرابين هذا الصراع الذي انتهى بقتل أحدهما لكان فى ذلك عزاء لابن آدم القاتل، إذ يرى فى هذا تبريرا لفعلته، وإجازة لجريمته. فضلا عن أن الغربان لا تواري موتاها أو قتلاها.
وخامسا: لو أن هذا الذي فعله ابن آدم كان أول فعلة وقعت من نوعها فى عالم البشر لما كان عليه كبير إثم منها.. لأنه فعل فعلا لا يدرى ما هو، وما عاقبته، ولما كان مستحقا أن يوصف بما وصفه الله به، وهو قوله تعالى:
«فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
ولكن ما مفهوم هذه الآيات؟ وما شأن الغراب هنا؟ ولم هذا الندم الذي استشعره القاتل مما فعله الغراب؟
أما مفهوم هذه الآيات- والله أعلم- فإنها ترفع لبنى إسرائيل مشهدا من مشاهد الآثام التي يأتونها من غير تحرج أو تأثم، وأن مردّ هذه الآثام يرجع فى أكثره إلى الحسد، الذي يملأ صدورهم نقمة على الناس، ويبسط ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى إلى كل من تلبسه نعمة من نعم الله..
وأنهم فى الإنسانية إنما يمثلون هذا الإنسان الظالم الآثم من ابني آدم، الذي حمله الحسد لأخيه على أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، وأن يخسر الدنيا والآخرة جميعا! هذا هو المضمون الظاهر لهذه الآيات..
أما الغراب، فقد يكون غرابا حقيقيا، أو كائنا سماويا تمثّل فى هذه الصورة.
وعلى أىّ فهو ملهم من الله تعالى بأن يفعل ما فعل بين يدى ابن آدم هذا..
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» فهو مبعوث من عند الله لهذا الأمر.
أما الندم الذي كان من هذا القاتل، فهو مما أثاره ما فعل الغراب.. هذا الحيوان الأعجم، الذي أقبل على جثة القتيل، يلقى عليها التراب، بما يحفر بقدميه حولها، حتى لكأنه يريد أن يواريها عن الأنظار، ويحميها من أن تنهشها السباع والطيور.
وهنا يتنبه هذا القاتل إلى وجوده، وإلى شناعة الإثم الذي ارتكبه، وأن هذا القتيل مظلوم، حتى استدعى ظلمه الحيوان الأعجم، ليكون إلى جانبه، حين تخلّى عنه أخوه، وأبى عليه إلا أن يكون طعاما للسباع والطير..
وهنا أيضا يستشعر القاتل الندم، ويقع ليقينه أنه قتل هذا القتيل عدوانا وظلما.
ولهذا وجد عاطفة الأخوّة تستيقظ فى نفسه، تلك العاطفة التي كانت قد أماتها الحسد، وذهب بكل أثر لها.. وذلك ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسان هذا القاتل:«يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» .. أخى.. هكذا يقولها بملء فيه، ومن قلب يفيض حسرة وندما! «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» أي أنه لم يكن يجد شيئا من الندم، قبل أن يرى ما فعل الغراب، ثم أصبح بعد ذلك من النادمين، إذ رأى نفسه أضأل من هذا الحيوان شأنا، وأعمى بصيرة، وأضلّ سبيلا.. وهكذا الإنسان، إذا غلبه الهوى، وركبه الضلال، كان أحط مرتبة فى عالم الحيوان، والله سبحانه وتعالى يقول:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..» (4- 6 التين) .