الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يهاجرون بدينهم- وها هم أولاء الآن قد صاروا إلى جماعة المسلمين، وظهر وجههم واضحا فى الإسلام. فليذكروا هذا الذي هم فيه الآن، وما كانوا فيه من قبل، وليجعلوا فى حسابهم لهؤلاء الذين يلقونهم فى مواطن الكفر بشارات الإسلام، وبلسان المسلمين- أنهم كانوا فى حال مثل حالهم..
وفى هذا ما يغيّر نظرتهم إليهم، ويوسع لهم فى باب التسامح والقبول..
وقوله تعالى:
«فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» دعوة أخرى، مؤكّدة للتثبث من أمر هؤلاء الذين لم يتضح أمرهم من الإسلام وضوحا كاملا، وأن على المؤمنين أن يحذروا أن يصيبوا قوما بجهالة، فتكون عاقبتهم الحسرة والندامة.. والله سبحانه وتعالى مطلع على الدواقع الخفية التي تدفع إلى التسرع فى هذا المقام، وأهمها هو الرغبة فى مال القتيل وسلبه.. فإذا عزل المسلم هذا الشعور عن نفسه عزلا تامّا، كان فى ذلك وقاية له من أن يأخذ هذا الإنسان، ويستبيح دمه، إلا إذا قامت بين يديه الدلائل القوية على أنه ليس من الإسلام فى شىء أبدا.
الآيتان: (95- 96)[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
التفسير: وإذ ذكر القتل والقتال، فقد استدعى ذلك ذكر الجهاد فى سبيل
الله، إذ كان أكثر ما يكون القتل وإراقة الدماء فى هذا الوطن، حيث يصطدم الحق بالباطل، ويلتقى المسلمون والكافرون بسيوفهم! والجهاد أكرم الطرق إلى الله، وأوسعها إلى مرضاته ورحماته..
ومنازل المسلمين تختلف باختلاف حظوظهم من البذل والتضحية فى هذا الموطن.. موطن الجهاد فى سبيل الله..
فهناك مجاهدون بأموالهم وأنفسهم.
وهناك قاعدون لم يجاهدوا بأموالهم أو أنفسهم.
وهناك- بين هؤلاء وأولئك- مؤمنون لهم أعذار تحول بينهم وبين الجهاد بالمال أو بالنفس.. بأن كانوا فقراء، أو كانوا ذوى عاهات، تحجزهم عن حمل السيف، ولقاء العدو..
وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بيان لما بين المجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين الذين لم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم من ذوى الأعذار- من تفاوت فى الفضل والمنزلة عند الله..
فهؤلاء الذين أعطاهم الله المال، وعافاهم فى أنفسهم، فلم يفقدوا جارحة من جوارحهم العاملة، ولم يصابوا بمرض مقعد- هؤلاء إذا أدوا حقّ الله فى هذه النعم التي أنعم بها عليهم فى المال وفى النفس، فبذلوا المال فى سبيل الله، وقدموا أنفسهم للاستشهاد فى سبيل الله- فقد استحقوا جزاء المحسنين، واستوفوه كاملا! أما هؤلاء الذين لم يكن لهم مال ينفقونه فى سبيل الله، أو قدرة بدنية على الجهاد بأنفسهم فى سبيل الله، فهم- وإن كانوا ولا لوم عليهم،
ولا مؤاخذة- لم يكسبوا ما كسبه المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبهذا سبقهم هؤلاء المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فى ميدان الفضل والإحسان، وكانوا أعلى درجة عند الله منهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
فهؤلاء، وأولئك، قد وعدهم الله الحسنى، وإن كان المجاهدون بأموالهم وأنفسهم أعلى درجة منهم فى مقام الإحسان، الذي هو حظ مقسوم بين المسلمين الذين آمنوا بالله، وأدوا لله ما أمرهم به، جهد طاقتهم، وما وسعت أنفسهم.
أما الذين آمنوا، ولم يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبين أيديهم المال، ومعهم الصحة والعافية، ولكنهم آثروا السلامة والدّعة، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله- هؤلاء قد بخسوا دينهم حقّه، ونزلوا عن درجات المؤمنين، على حين ارتفع المجاهدون بأموالهم وأنفسهم درجات.. وبهذا كان البون بين الفريقين شاسعا، والمدى بعيدا.. وهذا ما تضمنه قوله سبحانه.
«وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. فهذا الأجر العظيم الذي فضّل الله به المجاهدين على القاعدين، هو درجات كثيرة فى مقام الإحسان، ومغفرة من الله ورحمة، تشتمل هؤلاء المجاهدين، وتبدل سيئاتهم حسنات:
ولنا مع هذه الآية الكريمة وقفة لا بد منها:
فقد أجمع المفسّرون، والفقهاء، وأصحاب الحديث، على أن متنزّل هذه الآية الكريمة، لم يكن على هذه الصورة، أوّل ما نزلت..!
يقولون: إن الآية نزلت أولا هكذا:
والذي يتلو الآية الكريمة على هذا الوجه، يجد أنّ بين أولها وآخرها تناقضا لا يمكن رفعه بأى تأويل..
ففى أولها: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ درجة..»
وفى آخرها: «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً..» .
فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟ وكيف يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجة، ثم يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجات ومغفرة ورحمة..؟
كيف يقع حكمان مختلفان على أمر واحد، فى حال واحدة؟
فإذا تليت الآية الكريمة على ما هى عليه.. هكذا: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً» - إذا تليت الآية على ما هى عليه، كان لها هذا المفهوم الواضح الذي فهمناها عليه،
وكان الحكمان المختلفان واقعين على فريقين من المتخلّفين عن الجهاد: الفريق الأول الذي تخلّف بعذر، ولم ينفق لعذر، والفريق الآخر الذي تخلّف عن الجهاد لا لعذر، ولم ينفق فى سبيل الله لا لضيق ذات يد.. بل إيثارا للسلامة، وبخلا بالمال، وضنّا به فى هذا الوجه الكريم..
فقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ركن متين من أركان هذا البناء العظيم الذي للآية الكريمة، وأن هذا البناء لا يقوم أبدا بغير هذا الركن..
وتسأل: لم جاءت الآية الكريمة أولا دون ذكر لقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ملحقا بالآية، آخذا مكانه بين نظمها الذي قامت عليه أول أمرها؟ لم هذا؟ بل كيف هذا؟
والجواب الذي يقدمه المفسرون، والفقهاء والمحدّثون.. هو:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تلقى الآية الكريمة، دعا من كتّاب الوحى من يكتبها، وكان عبد الله بن أم مكتوم- وهو أعمى- ممن حضر مجلس رسول الله، هذا، فسأل رسول الله عن موقفه هو وأمثاله ممن لا سبيل لهم إلى الجهاد فى سبيل الله! قالوا: فما إن سأل عبد الله بن أم مكتوم هذا السؤال، حتى أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأخذه من الوحى، فلما سرّى عنه، قال لكاتب وحيه: اكتب: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» .: فكتبها كاتب الوحى، فى موضعها من الآية، كما تلقّاها الرسول الكريم وحيا من ربّه!! إنها قصة.. تنقصها الحبكة..!!
ولو استقام للآية وجه على هذا النظم الذي خلا من قوله تعالى: «غَيْرُ