الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنيا فقد استوفوه وهم فيها، وأما ما كان للآخرة فهو مدّخر لهم عند الله يجزون به يوم لقائه.
الآية: (135)[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
التفسير: المؤمنون هم أمناء الله بين الناس على دينه، وهم ميزان العدل لشريعته، فإذا اضطرب ميزان العدل فى أيديهم، فقد خانوا دين الله، واعتدوا على شريعته، ولم يصبحوا- لذلك- أهلا لأن يكونوا أولياء الله، ولا أن يحسبوا فى المؤمنين به.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» هو أمر ملزم للمؤمنين جميعا.. فردا فردا، وجماعة جماعة، وأمة أمة..
والقسط هو العدل. والقسطاس: الميزان، وأقسط القاضي: عدل، وقسط جار وظلم.. والقوّام: كثير القيام، فى مبالغة واهتمام.
وفى قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» ما يشعر بأن حمل أمانة العدل ليس أمرا هينا، وإنما هو حمل ثقيل، لا يقوى عليه إلّا من وثق إيمانه بالله، وأخلى نفسه من نوازع الضعف المادية والمعنوية، فلا يجعل لنفسه أو لمخلوق حسابا فى أداء هذه الأمانة وإقامة ميزانها مستقيما على ما أمر الله به..
وكلمة «قوامين» غير كلمة «قائمين» .. لأنها تشعر بالشدّ والجذب
والمعاناة، فى لفظها، وفى معناها، المستدلّ عليه من هذا اللفظ:
«قوامين» ! والشهداء، هم الشهود، الذين يحضرون مجلس القضاء، ويشهدون الفصل فى الخصومة، ويدلون بما شهدوه وأشهدوا عليه بين المتخاصمين..
فميزان العدل لا يقيمه القاضي وحده، وإنما يد الشهود ممسكة بهذا الميزان، مشتركة مع القاضي فى إقامته معتدلا أو مائلا.. ولهذا كان أمر الله هنا بإقامة ميزان العدل، متجها إلى القاضي، وإلى الشهود معا:«كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» ..
وفى إضافة الشهادة إلى الله تكريم لها، واحتفاء بها، ورفع لقدرها، إذ كانت محسوبة على الله، لأنها تقيم شرعه، وتحق الحقّ الذي هو حرمة الله.
فالذى يؤدى الشهادة على وجهها إنما يؤديها لله، وينصر بها حق الله، والذي ينحرف بها، ويشوّه وجهها، إنما هو معتد على الله، خائن لأمانته.
قوله تعالى: «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ولو كانت الشهادة تدين أنفسكم، وتلحق الضرر بكم.. فحق الله عليكم أوجب من حق أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، وتؤثرون مرضاته! وقوله سبحانه:«أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» معطوف على قوله تعالى:
«وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو كان فى ذلك إدانة لكم أو لوالديكم، أو للأقربين منكم.
وقوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» أي أدّوا الشهادة على وجهها، وأقيموا ميزان العدل منها، دون حيف على الفقير لفقره وضعفه، ودون عدوان على الغنى لصالح الفقير ودفع الضرر عنه.. فالحق هو
الحق، وفى ساحته يتساوى الناس جميعا، دون نظر إلى ما يتلبّس بهم من ظروف وأحوال..
والضمير فى قوله تعالى «إِنْ يَكُنْ» يرجع إلى المشهود له والمحكوم لصالحه من المتنازعين، ممن كان غناه أو فقره محل تقدير الشاهد، وانحراف شهادته، أو كان محل نظر القاضي وموضع عطفه.. والمعنى: إن يكن المشهود له أو المحكوم لصالحه غنيا أو فقيرا، فليس من شأنكم أيها الشهود ولا من حقكم أيها القضاة أن تدخلوا هذا فى حسابكم، وأن تترضّوا عواطفكم على حساب الحق والعدل.. لأن الله سبحانه وتعالى هو أولى منكم بتقدير حال كل من الغنى والفقير، إذ لو شاء لأفقر الغنىّ وأغنى الفقير، أو شاء لأعناهما جميعا أو لأفقرهما معا..
وقوله تعالى: «فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا» هو تحذير من تلك الأهواء والعواطف التي يجدها القاضي أو الشاهد، لذوى قرابته، وأصدقائه، أو لأصحاب الجاه والسلطان، أو لأهل الحاجة والضر.. فهذه العواطف من شأنها أن تنحرف بالشاهد عن أن يؤدى الشهادة على وجهها، كما أنها تمسك يد القاضي أن يقيم ميزان العدل فى مجلس القضاء، إن لم يقم عليها وازع من دين وخلق.
وقوله تعالى: «أَنْ تَعْدِلُوا» فى تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، والتقدير:
فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي لإقامة العدل لا تتبعوا الهوى.
قوله تعالى: «وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» اللّيّ: الميل والانحراف، والمراد به تغيير وجه الشهادة، يقال: لوى فلان وجهه عن الشيء يلويه ليا إذا نظر إليه مزورا أو منحرفا، ومنه قوله تعالى فى اليهود وفى تحريفهم الكلم عن مواضعه:«مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ» (46: النساء)(59- التفسير القرآنى ج 5)