الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان: (89- 90)[سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 91]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
التفسير: يعيش المنافق فى صحبة شعور مزعج، وهو أنه يحمل جريمة، يحاول إخفاءها عن الناس، ولكن عيون الناس تتبعه حيث كان، تبحث عن هذا الشيء الذي يخفيه، ويبالغ هو فى ألا يراه أحد.. هكذا هو أبدا مع هذا الشعور المتسلط عليه..
وقد يكون الناس فى غفلة عنه، وفى غير التفات إليه، ولا مراقبة له، ومع هذا فإن الجريمة التي يحملها معه، لا تدع له سبيلا إلى الاطمئنان والهدوء، بل تراه دائما على حذر، يرصد الناس، ويسترق النظر إليهم، بل يكاد يسألهم:
عمّ يبحثون؟ وماذا يريدون؟ وما هى الجريمة؟ ومن المجرم؟ .. وفيه يصدق المثل الذي يقول: «يكاد المريب يقول: خذونى» !
إن المنافق أشبه بمجرم فى قفص الاتهام.. والمجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يحاكمه، ويحاصره، ويأخذ عليه كل سبيل للإفلات من تلك النظرات المتهمة له، الفاضحة لجرمه.
ومن هنا يقوم فى كيان المنافق شعور آخر، يواجه به شعور الخوف والقلق الذي يستولى عليه، من إحساسه بمراقبة الناس له، واطلاعهم على خبيئة أمره، وفضحهم لخفىّ نفاقه- هذا الشعور الآخر، هو الرغبة فى أن يرى الناس جميعا من حوله، صورة منه.. فلا يلقون أنظارهم إليه، ولا يلتفت هو إليهم، ولا يحاول أن يستر فعلته عنهم، إذ كانوا جميعا على شاكلته..
فإن المجرم بين المجرمين، لا يستحى أن يكشف عن جرائمه، بل وربما بالغ فيها، ليرى أصحابه منه أنه عريق فى الإجرام، يستأهل مكان الصدارة فى المجرمين! ومن هنا كان المنافقون يسعون دائما إلى إفساد المؤمنين وإغوائهم، وتزيين النفاق لهم، وتحبيب الكفر إليهم، ليكونوا معهم فى هذا البلاء، وليقتسموا المحنة التي يعيشون بين المجتمع فيها! وفى قوله تعالى:«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» - ما يكشف عن هذا الشعور الذي يحرك المنافقين إلى إفساد المؤمنين، ليؤنسوا وحشتهم، وليفكوا قيدهم الذي يمسك بهم فى محيط محدود لا يتجاوزونه! حتى إذا امتلأت الأرض نفاقا، كان لهم أن يسرحوا ويمرحوا كيف يشاءون، وأن يظهروا ما ستره النفاق منهم، من كفر وإلحاد.. ولهذا جاء التعبير القرآنى:
«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا» بديلا مما يقضى به الظاهر وهو: «ودوا لو تنافقون كما نافقوا» ، لأن النفاق يستر وراءه الكفر.. فجاء التعبير القرآنى فاضحا هذا الكفر المستتر وراء النفاق..
وقوله تعالى: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هو
تحذير من الله للمؤمنين أن يوالوا هؤلاء المنافقين، وأن يأمنوا جانبهم، ماداموا فى موقفهم الذي اتخذوه من المؤمنين.. فإن تحوّلوا عن هذا الموقف، وانحازوا إلى جماعة المؤمنين، وخالطوهم، وأخذوا مأخذهم فى الحياة، واستقاموا على طريقهم، وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله- إن هم فعلوا ذلك كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، وكان على المؤمنين ضمّهم إليهم، وجمعهم معهم.. فإن أبوا إلا أن يظلوا فى هذا الموقع المنحرف بين المؤمنين والكافرين، وجب على المؤمنين أن يعاملوهم معاملة العدوّ الراصد.. إذا وقعوا لأيديهم فى معركة كان جزاؤهم القتل، وإن لم تصل إليهم يد المؤمنين بالقتل، كان على المؤمنين أن يتجنبوهم، وأن يحذروهم، فلا يقبلوا منهم قولا، ولو جاء فى صورة النصح، ولا يستنصروا بهم فى حرب، ولو أحاط بهم العدوّ..
وقوله تعالى «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» هو استثناء من تلك المقاطعة التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى مواجهة المنافقين..
فإنه إذا انحاز هؤلاء المنافقون إلى جماعة- غير مؤمنة- بينها وبين المؤمنين ميثاق، بالموادعة والمسالمة- لم يكن للمؤمنين أن يمدّوا أيديهم بأذى إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم صاروا فى ذمة تلك الجماعة التي وادعها المسلمون وسالموها! وفى العدوان عليهم عدوان على تلك الجماعة، ونقض للميثاق الذي عقده المسلمون معهم، ووجب عليهم الوفاء به! وقوله تعالى:«أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» هو عطف على المستثنى السابق.. يبيّن حكم جماعة أخرى من المنافقين جاءوا إلى المسلمين يطلبون الموادعة والمسالمة، وهم مقيمون حيث هم فى قومهم الذين لم يدخلوا فى الإسلام.. فهؤلاء المنافقون، قد كفّوا أيديهم عن المسلمين طلبوا الأمان منهم، وانحازوا جانبا.. لا يقاتلون المسلمين مع قومهم،
ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين.. فهم- والأمر كذلك- فتنة نائمة، وشر ساكن.. ومن مصلحة المسلمين- وهم فى وجه عداوة وحرب- ألّا يحركوا هذا الشرّ، وألا يوقظوا تلك الفتنة..
وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» يبيّن الحكمة من موادعة هؤلاء المنافقين ومسالمتهم.. إذ كان من المتوقع أن يكونوا حربا على المسلمين مع قومهم، وأما وقد كفّوا أيديهم واعتزلوا الحرب، فلم يكونوا هنا أو هناك، فإن موادعتهم كسب للمسلمين، وإضعاف لقوة عدوّهم، وفتح ثغرة فى صفوفهم.. ربما كانت مدخلا يدخل منه كثيرون، ممن يعتزلون حرب المسلمين ويكفون أيديهم عنهم..
وقوله تعالى: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» هو تنبيه للمسلمين إلى أخذ الحذر والحيطة من هؤلاء المنافين، الذين قد يغلب عليهم طبعهم، فلا يمسكون بالعهد الذي عاهدوا المسلمين عليه، والذين ربما لو رأوا كفة قومهم هى الراجحة مالوا إليهم، وقاتلوا معهم، غير ملتفتين إلى عهد أو ميثاق.. ومن هنا كان على المسلمين أن يقيموا عهدهم معهم على هذا المفهوم، وأنه عهد غير مطلق، وإنما يوثقه أو ينقضه ما يكشف عنه واقع الحال من هؤلاء المنافقين، فإن استقاموا استقام لهم المسلمون، وإن نكثوا فلا عهد لهم عند المسلمين ولا ذمّة..
وقوله تعالى: «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها» بيان لما تكشف عنه التجربة من أمر هؤلاء المنافقين، وأن جماعة منهم، ركبها النفاق، وغلب عليها حكمه، فلم تكن موادعتها للمسلمين إلا ضربا من ضروب النفاق، تريد به أن تضمن السلامة والعافية، وأنه إذا انتصر المسلمون على قومهم، كانوا هم بمأمن مما يجرى على