الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقلوا لعرفوا أن متاع هذه الحياة الدنيا قليل، وإلى زوال، وأن الآخرة خير وأبقى، فمن ربح الدنيا وخسر الآخرة فذلك هو الخسران، المبين، ومن خسر الدنيا وربح الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» تعجّب واستنكار معا، من هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف المتخاذل من الدعوة إلى القتال.. إنهم- وتلك حالهم- مثار للعجب والتعجب، وفيهم عبرة لمن يعتبر! وقد ذكر الله سبحانه هذا الموقف المتخاذل، من بعض النفوس المريضة، وشنّع عليه، وأخذ باللائمة أهله.. فقال تعالى:«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (20: محمد) .
الآيات: (78- 79- 80)[سورة النساء (4) : الآيات 78 الى 80]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
التفسير: هؤلاء الذين يفزعون من الموت، ويخشون التعرض له فى مواقف الجهاد فى سبيل الله- ماذا يعصمهم من الموت؟ وإلى أين تمضى بهم الحياة؟
أليس الموت هو خاتمة المطاف لكل حىّ وإن طال أجله وامتدّ عمره؟ إذن فالموت الذي يهرب منهم هؤلاء الجبناء هو ملاقيهم يوما، أينما كانوا..
ولو كانوا فى بروج مشيدة.. فهم إن لم يموتوا بضربة سيف أو طعنة رمح فى ميدان القتال، ماتوا حتف أنوفهم وهم فى بيوتهم وبين أهليهم.. فإن فرّوا من الموت، فإنما يفرّون إلى الموت!! وقوله تعالى:«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» هو تنديد لهؤلاء الجبناء الفارّين من وجه الموت، وفضح لموقفهم المنحرف من الرسول. «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. وتلك قوله حق «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» وتلك رمية باطل وضلال، فما فيما جاءهم به الرسول ودعاهم إليه، إلّا الخير الخالص، لو أنهم استقاموا على الطريق الذي أقامهم عليه.
وقوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو الردّ المفحم على تلك التهمة الظالمة التي توجّه بها هؤلاء السفهاء إلى النبىّ.. إنه لا يملك شيئا، الأمر كله بيد الله.. فما أصابهم من خير أو شرّ فذلك بقدر مقدور قدّره الله، وأجراه على عباده.. وما كان لأحد أن يغيّر أو يبدل شيئا مما قضى الله به! وقوله تعالى:«فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» تسفيه لتلك العقول الضالة التي يعيش بها هؤلاء المنحرفون الضالون.. إنهم لا يكادون يفقهون حديثا.. ولو كان لهم شىء من فقه الحديث، لكان لهم فيما جاءهم به النبي من كلمات الله، تبصرة وهدى، ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟ «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
وقوله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هو استكمال للصورة التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكسب، ومدى مسئوليته فيما يعمل من خير أو شر، ومن حسن أو قبيح..
فقد بيّن الله فى قوله سبحانه: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» أن كل شىء يقع فى هذا الوجود هو بتقديره، وعن علمه، وبإرادته.. «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) .
وهذا- على إطلاقه- يعنى أن الإنسان لا كسب له، وإنما هو وما يقع منه من أعمال، ليس إلا مظهرا لإرادة الله، وإعلانا لما قضت به مشيئته! وهذا يعنى أيضا أن الإنسان غير مسئول عن غيّه أو رشاده، وكفره، أو إيمانه، إذ لا إرادة له، مع تلك الإرادة الإلهية الغالبة، ولا مشيئة مع تلك المشيئة العلوية القاهرة! ولكن واقع الإنسان ينبىء عن أنه ذو إرادة، وذو مشيئة، وأنه يريد، ويشاء.. وأنه يقف بين طريقى الخير والشر، فيريد هذا الطريق أو ذاك، حسب تقديره، ويرتضى الكفر أو الإيمان، حسب مشيئته.. ليس هناك قوة ظاهرة تحمله على أي الأمرين، وإنما ذلك إلى إرادته ومشيئته.
وإذن فهناك معادلتان يراد التوفيق بينهما:
معادلة تقول: الخير والشر جميعا من عند الله.. «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. والمعادلة الأخرى تقول: الخير من عند الله، والشر من عمل الإنسان.. «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» والحق أنه مع النظر والتأمل نجد أنه ليس هناك معادلتان، بل هما معادلة
واحدة، وأن قوله تعالى:«ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هى نفس ما تضمنه قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وأنه إذا كان الله تعالى قد أضاف الخير إلى نفسه، وأضاف الشرّ إلى الإنسان، فما ذلك إلا إعمالا لإرادة الإنسان، وإيقاظا لوجوده، وإلا فإن الأمر كله لله، وليس للإنسان منه شىء، وأن على الإنسان فى مواجهته للحياة، أن يستقلّ بإرادته، وألا يضيفها إلى الله.. فإن حصّل بتلك الإرادة خيرا حمد الله عليه، وشكر له أن وفقه وهداه، وإن حصّل شرّا نظر إلى نفسه، فألقى باللائمة عليها، وصحح موقفه الذي أورده موارد الشر.. وذلك على الأقل- وإن لم يزحزح الإنسان عما أراد الله له- يجعل الشرّ أمرا بغيضا حتى عند أهله الذين ساقهم قدرهم إليه.. وذلك أضعف الإيمان فى مواجهة الشرّ..
وبهذا يستقيم للإنسانية فى مجموعها رأى فى الخير وفى الشر، فتحتفى بالخير وترضى عنه، وتبغض الشر وتنفر منه.. وبهذا يتوازن ميزان الحياة.. فيكون فيها الخير والشر، والأخيار والأشرار.. الأمر الذي لا تكون الحياة حياة إلا بهما، ولا يكون الناس ناسا إلّا معهما جميعا!! وإذا استقام فى الإنسانية أن الخير طيّب محبوب، وأن الشرّ خبيث مكره، فإنه مطلوب من الإنسان- كل إنسان- أن يسعى جاهدا إلى تحصيل الخير والاستزادة منه، وأن ينفر جاهدا من الشرّ والتخفف منه.. وألا يستولى عليه فى حاليه هذين أي شعور بأنه مهما جدّ وجهد فلن يبلغ من جدّه واجتهاده إلا ما قدّره الله له..، وكتبه عليه.. فذلك- وإن يكن الحقّ كلّ الحق- أمر غير مكشوف له، وأن عليه أن يعمل للخير، وأن يجدّ فى تحصيله، وأن يدع المصير الذي هو صائر إليه، لتقدير الله وحكمه.. «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» .
وقوله تعالى: «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» تحديد لمهمة الرسول، وأنه