الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية: (32)[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
التفسير: فى الآية قبل السابقة، دعا الله سبحانه وتعالى إلى صيانة الأموال، وإلى قتل الأهواء، التي تنزع بالنّاس إلى أكل أموال بعضهم بعضا بالباطل.
وإذ كان المال- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هو القوة المحركة، للناس، كما أنه هو القوة الدافعة إلى عدوان بعضهم على بعض، فإن الإسلام قد أولى المال عناية خاصة، وحرسه وحرس الناس، من دواعى الفساد التي تدبّ إليه وإليهم، فينقلب هو إلى نقمة بعد أن كان نعمة، ويتحول الناس إلى وحوش ضاربة، بعد أن كانوا بشرا سويا، أرادهم الله لعمران الحياة، وخلافته على هذه الأرض.
وفى هذه الآية وجه آخر من الوجوه التي يكشفها الإسلام للمال، ويكشف منه الداء الذي لو لم يتنبه الناس إليه، لأفسد حياتهم، واغتال أمنهم واستقرارهم.
وهذا الوجه هو تفاوت الناس فيما يقع لأيديهم من مال، هذا التفاوت الذي قد تبعد مسافاته من بين يملك القناطير منه، ومن لا يملك شيئا.. فيكون فى الناس الغنىّ الواسع الغنى، الذي يكاد يموت كظّة وتخمة، والفقير الذي يوشك أن يموت جوعا ومسغبة.
ولا شك أن هذا وضع من شأنه أن يثير فى النفوس- نفوس الفقراء والمحرومين- مشاعر الحسرة والألم، ونوازع الضغينة والحسد، على أولئك الذين يملكون ولا يعطون، ويموتون تخمة ويضنون بلقيمات تمسك رمق أولئك الذين يموتون جوعا- الأمر الذي إذا استشرى فى الجماعة، وتسلط على
تفكيرها وشعورها، أثار فيها عواصف الفرقة، التي قد تصل إلى التناحر والقتال! وقد جاء الإسلام إلى الأغنياء بوصاياه التي تجعل من أموالهم التي فى أيديهم حقوقا لإخوانهم الفقراء، إن قصّروا عن الوفاء بها كانوا بمعرض من نقمته وبلائه فى الدنيا، وعذابه الأليم لهم فى الآخرة.. وكان من نقم الله عليهم فى الدنيا أن يسلط عليهم الفقراء، فيفسدوا حياتهم، ولا يقيموهم فيها على جناح أمن وطمأنينة! ثم جاء الإسلام من جهة أخرى إلى الفقراء، فكانت وصاته لهم ألّا ينفسوا على الأغنياء ما فى أيديهم، وألا يحسدوهم على هذا الذي نالوه من حظوظ الدنيا، وأن يروّضوا أنفسهم على الصبر على ما قسم الله لهم، بعد أن يعملوا فى كل وجه متاح لهم من وجوه العمل، وأن يأخذا بما دعا الله عباده إليه من السّعي والجدّ لتحصيل الرزق:«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (15 الملك) .
فإذا أخذ الأغنياء بما وصّاهم الله به من رعاية حقوق الفقراء، وأخذ الفقراء، بما دعاهم الله إليه من غض أبصارهم عما فى أيدى غيرهم، مما لم تنله أيديهم- إذا أخذ هؤلاء وهؤلاء بما وصاهم الله به، التقوا جميعا لقاء الأخوة، لقاء المودة والحبّ، وصلح أمرهم جميعا، فلا يذهب الغنىّ بغناه، ولا يستبدّ به، ولا ينطوى الفقير مع فقره، ويموت به! هذا هو الوجه الذي نفهم عليه قوله تعالى:«وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» . وإن كان للآية وجوه أخرى كثيرة بعيدة عن جوّ الآية، قد فهمها عليه أكثر المفسرين.
وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» ما يكمل الصورة التي فهمنا عليها صدر الآية.. ففى قول الله:
«لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» هذا، دعوة إلى الكسب، وإلى السعى الجادّ فى وجوه الرزق. دعوة للرجال وللنساء معا..
فالعمل، والعمل وحده، هو وسيلة الرزق الطبيعية، ومن لا يعمل، فقد تمنّى على الله الأمانى، وفرض على الناس أن يعملوا، وهو متدثر بثوب الكسل والخمول، لينال من ثمرة عملهم، ويعيش من عرق جبينهم، وهذا عدوان على المجتمع، كما هو عدوان على نفسه وظلم لها، إذ رضى أن يكون عالة على الناس، وكائنا غريبا يعيش فيهم، كما تعيش الحشرات.. وفى ذلك إهدار لآدميته، وتضييع لكرامته!! وليس أبرّ بالإنسانية، وأرعى لكرامتها، من دعوة الإسلام تلك، إلى العمل والكسب، حتى المرأة، لم يعفها الإسلام من العمل إذا لم يكن من ورائها زوج، أو ولد، أو أخ.. يقوم بمطالبها، ويسد حاجتها..
وفى قوله تعالى: «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» تأكيد للدعوة إلى العمل، والسعى فى طلب الرزق، والأخذ بأسبابه من وجوهه المشروعة، فإذا كان ذلك، كان للإنسان أن يسأل الله العون والتوفيق، فما الرزق الذي يرزقه العاملون إلّا من فضل الله.. أما أن ينصرف الإنسان عن العمل، ولا يأخذ بأسباب الرزق، ثم يدعو الله أن يرزقه، فقد ضلّ الطريق إلى الله، وقطع بينه وبين ربّه الأسباب.
ولمحة مشرقة نلمحها فى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» وهذه اللمحة تكشف لنا عما فى كلمة «نصيب» من معطيات، تملأ القلب جلالا وروعة.
فقد جاءت كلمة «نصيب» مخالفة لما نتوقع فى هذا المقام.. حيث يأخذ الإنسان كلّ ما اكسب، لا نصيبا مما اكسب، إذ أنه كسبه كله ليده..
فكيف تجىء كلمة «نصيب» هنا؟ وما حكمة مجيئها؟
والجواب، وهو بعض ما نستلهمه منها.. هو:
أولا: أنه إذا كان العامل يأخذه ليده كل ثمرة عمله، فذلك هو حقّه..
ولكن إذا صار هذا الحق ملكا له، فإن ملكيته له غير خالصة، إذ أن فى هذه الثمرة، أو فى هذا المال حقوقا للغير.. لذوى القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل.. ثم قبل هذا كلّه حق الله، وهو الزكاة! فما يكسبه المرء من عمله ليس خالصا له، وإنما له نصيب فيه، كما لله ولعباد الله نصيب فيه أيضا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (24- 25: المعارج) وهذا ما ينبغى أن يقع فى شعور صاحب المال، وأن يتصرف فى ماله بمقتضى هذا الشعور.. وإلا كان معتديا على حقّ الله، وحق عباد الله..
وثانيا: أنه إذا أدى صاحب المال حق الله وحق الفقراء والمساكين فى ما له، كان له الحق فى أن ينفرد بنصيبه هو، وأن ينال به ما أحل الله من طيبات..
وهذا شعور ينبغى أن يستشعره الفقراء حيال الأغنياء، الذين يؤدون ما فى أموالهم من حقوق، وعلى هذا، يجب ألا ينظر الفقراء إلى الأغنياء، وما ينالون من نعم الله، نظرة حسد، أو حنق.. وإلا كانوا ظالمين معتدين!! فإن من حق العامل أن يذوق ثمرة عمله، وألا يحول بينه وبينها من لا ثمرة لهم، ممن لا يعملون، والله سبحانه يقول:«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . وما العلم إلا ثمرة من ثمار العمل.
ذلك هو حكم الله فى عباده، يأخذهم به فى الدنيا، وينزلهم عليه فى الآخرة!.