الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنذكر في دار "التغيرة" عمة
…
إذا وزنت بالأكثرين غلوب
إذا جئتها يومًا تضاحك وجهها
…
وهشت وبشت وهي مني قروب
تقول ألا أهلا وسهلًا ومرحبا
…
تغيبت أيامًا فأنت جدوب
سلام عليك في القبور نزيلة
…
فكيف وصال والشمال جنوب (1)
إذا هتفت ورقاء فوق ذؤابة
…
تناءت نجوم دابهن غروب (2)
عبد الكريم بن صالح الطويان والتأليف:
كتبت في جريدة الجزيرة تعريفًا بآخر كتاب طبع له وعنوانه: (حمرة على أطراف السعف) وذكرت في أثناء ذلك ما طبع له من الكتب كما ذكرت رأيي في أدبه وتاليفه، وهذا نص ما كتبته وأذكره هنا لأنه - في رأيي - يوضح جوانب من أدبه وأسلوبه، بل وشخصيته:
كتاب جديد: (حمرة على أطراف السعف)، تأليف عبد الكريم بن صالح الطويان، تعريف: محمد بن ناصر العبودي.
صدر للأستاذ عبد الكريم بن صالح الطويان كتاب جديد بعنوان (حمرة على أطراف السعف)، الطبعة الأولى 1438 هـ في 279 صفحة.
ولم يفسر المؤلف معنى التسمية في طرة الكتاب، ربما كان ذلك لغلبة ظنه بأن الناس يعرفونه.
مع أنه لابد أن يوضح معناه للقراء الذين لا يعرفون المراد من ذلك إلَّا من كان منهم مثلنا معانيًا أو معنيًا بالتعبيرات والمجازات اللغوية، وبخاصة عند العامة.
فهذا التعبير مجاز، يقال لمن طعن في السن، وصار الناس يتوقعون أن
(1) كانت تسكن بالتغيرة، شمال بريدة القديمة، وبعد وفاتها سكنت مقبرة (المطا) جنوب بريدة، وهذا هو المعنى.
(2)
يكثر اليمام والحمام بمزرعة "التغيرة" ونعني "النجوم الغاربة" الأموات الثلاثة رحمهم الله.
يودع الحياة، يقولون:(شمسه على روس العسبان) وهو مثل عامي شرحته، وبينت أصوله في كتاب:(الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة). .
ويراد منه أنه لم يبقَ من عمره إلَّا مثل ما يبقى من النهار إذا كانت شمسه قد قاربت المغيب، ولم يبقَ من ضوئها شيء، إلا ما يكون على رؤس العسبان، جمع عسيب وهو عسيب النخلة: كناية عن الأماكن المرتفعة عندما كانت فروع النخيل هي أعلى شيء عندهم.
واسم الكتاب هو المراد لذلك، فهو يقول:(حمرة على أطراف السعف) والحمرة هي آخر ضوء الشمس عند الغروب، والسعف: الخوص الذي يكون في عسبان النخلة وهو لها بمثابة الأوراق للأشجار الأخرى.
ووجدت في باطن الكتاب إشارة من المؤلف لمعنى اسم الكتاب، وذلك في مقالة بعنوان:(باق من الزمن ثلاثون يومًا) ففيها قال: "يا لها من لحظات عجلي، وقعها سريع، وأسفها كبير، وحيرتها شديدة.
فعلى ماذا يأسف هذا الإنسان الذي أوشك على المغادرة وأمست (شمسه على أطراف السعف)، ص 17.
والكتاب بمجموعه يصح أن يوصف بما كان علماؤنا الأوائل من علماء القرن الثالث فما بعده يصفون أمثاله، إذْ يسمون الكتب الأدبية التي تجمع فنونًا من القول في قالب أدبي بكتب المحاضرات، ومن أشهرها كتاب (محاضرات الأدباء: وكنايات الشعراء والبلغاء) للراغب الأصبهاني الذي له الكتاب النفيس (مفردات القرآن).
ولكن كتب المحاضرات القديمة تحفل بالنقول من النصوص الأدبية ما بين شعرية ونثرية ويضم بعضها أبوابًا من الكلام الذي يستحيا من ذكره، كما قد تتكلم في الاستهزاء بالنساء والتهوين من شأنهن، لأن مثل هذه الكتب، بل وغيرها من الكتب لا يقرأها في العادة إلَّا الرجال، ولا تقرأه النساء والفتيات
في العصور القديمة، غير أن الكتاب الذي بين أيدينا للأديب الأريب الأستاذ عبد الكريم بن صالح الطويان، بريء من ذلك، فهو يحتوي على موضوعات عديدة مفرقة ينتظمها كلها الرغبة في العظة والعبرة، وإمتاع القارئ بالكلمة الصادقة والاستفادة الكامنة في القصص والعناوين التي في الكتاب:
مثل العناوين التالية: (الشبيه الذي لا يسرك)، (موعد مع النور)، (الصباح الذي عشقته الطيور)، (الإسلام دين الحضارة لا دين الحجارة)، في الإنكار على التماثيل المنحوتة رموزًا دينية، و (حوار مع رجل بوذي)، و (هنيئًا لمن بلَّغَ أية).
ومن العناوين المتميزة هذه العناوين:
(عَلِمَ بالكسوف فدخل مسكنه، وجهل بالزلزلة فلم يخرج منه)، و (الأرض المتصدعة)، و (البشر لا يشبهون الأشجار)، مع أن هذا العنوان ليس على إطلاقه، إذْ ورد في الحديث الصحيح تشبيه المؤمن بالنخلة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المؤمن نبئوني ما هي؟ ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة".
وهكذا يمضي المؤلف الكريم في إيراد المضامين المتعلقة بهذه العناوين التي يبلغ عددها 139 عنوانًا، وآخرها (وداعًا إلى لقاء) وهي قصيدة رثي بها صديقه ناصر بن صالح اليحيي الذي توفي في حادث سيارة في عام 1418 هـ، وقبله عنوان (رحل الهلال بسابع من عمره).
إن موضوعات الكتاب موضوعات طريفة، وبعضها يسجل حكايات أو لمحات أو حتى وقائع لم تسجل من قبل، وقد أنفق المؤلف وقتًا ثمينًا، بل أوقاتًا ثمينة في جمعها أولًا، ثم في كتابتها وتدوينها.
وبخاصة أنه كان يمهد في الغالب للمقصود من العنوان بتمهيد من عنده يوضح المقصود مما سيورده فيه، أو يكتب تذييلًا يوضح ذلك أيضًا.
والذين قرءوا كتابه الأول (من أفواه الرواة) لا يستغربون أن يكتب هذا الكتاب: (حمرة على أطراف السعف) لأنه في الكتاب الأول بدا للقراء أديبًا حصيفًا جامعًا للروايات الشعبية التي تضم الحكاية المشوقة والقطعة الشعرية الجيدة.
وهذا الكتاب الأخير (حمرة على أطراف السعف) هو الكتاب الرابع الذي أصدره المؤلف الأستاذ عبد الكريم بن صالح الطويان، وقد كتب في آخره أن له كتابًا خامسًا عنوانه (عصف السنين).
أعانه الله، وقواه حتى يتحف القراء والمتطلعين بالمزيد من مثل هذه الكتب المفيدة التي انتزع أكثر ما فيها من أنياب الضياع والنسيان.
ولابد هنا من بيان الكتب التي طبعت للمؤلف الأديب عبد الكريم بن صالح الطويان.
- فالكتاب الأول هو الذي أشرت إليه من قبل: جمع فيه الأستاذ عبد الكريم بن صالح الطويان ما كتبه في ركن (من أفواه الرواة) الذي كان ينشر في جريدة (الجزيرة) وأضاف إليه غيره من الفوائد والنكت والقصص القصيرة أو الحكايات، فجاء كتابًا حافلًا يقع في 359 صفحة، طبع الطبعة الأولى في عام 1410 هـ، نشرته دار الجسر للطباعة والنشر والإعلان، وهو كتاب ممتع لا يستطيع الإنسان أن يدعه إذا بدأ بأوله حتى يصل إلى نهايته.
- "نبض الحياة": نشرته مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الأولى عام 1423 هـ في 415 صفحة، وهو مجموع خواطر وسوانح وتعليقات لطيفة على أحداث صغيرة أو تجارب شخصية، وقد حبره أسلوب المؤلف اللطيف اللمَّاح.
- "طين يحنُّ إلى طين": أوضح المؤلف هذا العنوان الغامض في آخر صفحة الغلاف بقوله: تداعي من الحكي الشعبي، وأطياف من الطفولة الأولى، وفوقه عنوان صغير (أيامنا في التغيرة) والتغيرة: هي الآن حي
من أحياء بريدة الشمالية الشرقية، وقد تجاوزته عمارة بريدة إلى أبعد منه كثيرًا من جهة الشرق والشمال، وكانت التغيرة قبل ذلك بساتين من النخيل وحقول خضر من الحبوب.
والكتاب: خواطر وتعليقات وذكريات من الماضي القريب الذي جعله التحول الاجتماعي السريع في بلادنا بعد اكتشاف النفط وتدفق عائداته يبدو كالماضي البعيد، الطبعة الأولى عام 1431 هـ في 137 صفحة.
وهذه نماذج ثلاثة من موضوعات الكتاب الذي نحن بصدد الكلام عليه وهو (حمرة على أطراف السعف) أحدها بعنوان (محكية تراثية) ص 14 - 16.
محكية تراثية:
(حين كان الشتاء يطرق الأبواب، لم نكُ بحاجة إلى طرق باب (علي بن عوض الفريدي) كان بابه مفتوحًا، ورائحة دخان وقدة (الأرطى النجدية) تمتزج مع رائحة (العود الهندي) والقهوة العربية على النار، وفي الواجهة تشكيلة تراثية تحكي أعماق التراث وجذور الوطن، كل شيء في (القهوة) يُحدث عن تاريخ الركبان، وحكايات الرجال، وقصيد الشجعان، وشرب (أبو مياح) الفنجال الأول، وحكى محكية تراثية:
كان رجلان من العقيلات في طريقهما إلى الشام، وقد تحزما بنقودهما، وتوكلا على الله، ينويان المتاجرة والمصافقة في الأسواق، وامتد بهما الطريق، وقد بشر الوسم بمزونه الأولى التي أمطرت فملأت التلاع بمخزون المياه، وأوقف الراكبان راحلتيهما ونزلا قرب موقع ممطور تحيط به غدران المياه، وأخذ أحدهما يجهز الغداء، وتقدم الآخر ناحية غدير الماء، فخلع حزام النقود الجلدي (الكمر) ووضع ثيابه، ونزل يسبح في غدير الماء!
وفجأة تحوم (حدأة) جارحة - فتمسح المكان، ثم تهوي إلى حيث (الكمر الجلدي) المملوء بالنقود الذهبية، فتحمله وتصعد به إلى عنان الجو، و (العقيلي)
العائم في الغدير ينظر إلى (الحدأة) وهي تصعد برأس ماله الذهبي بعينين غارقتين بالدهشة والحسرة، ويخرج من مسبحه في محاولة يائسة لعمل ما يمكن الاستنقاذ (الكمر) لكن (الحدأة) تختفي عن الأنظار في عُروجها إلى الفضاء البعيد، ويضرب (العقيلي) كفًّا بكف مرددًا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويعود إلى رفيقه القائم حول الزاد والراحلتين الذي أعد القهوة، وطبخ الغداء وقام ينتظر عودة صاحبه، الذي عاد بوجه غير الوجه الذي مضى به، وسأله رفيقه: ما أخرك يا فلان؟ فلم يرَ (العقيلي) أن من الحكمة أن يفجع رفيقه بخبر (الحدأة) التي طارت (برأس ماله) بل قال له: لقد سبحت بغدير الماء القريب، ثم خرجت من الماء، وجلست قرب الغدير، وتفكرت في شأن أسرتي وأمر الرحلة، واستخرت الله بين المواصلة والعودة فبدا لي أن أعود إلى نجد، واصل يا صاحبي رحلتك مستعينًا بالله، الله ولي توفيقك، وحاول رفيقه أن يثنيه عن قرار العودة، أو يفهم العلة في اتخاذه، ولكنه لم يتحقق له شيء من ذلك. وعاد (العقيلي) إلى نجد ومضى رفيقه إلى الشام، وحين تقدم عدة أميال، إذ به يبصر على الطريق (كمرًا) مملوءًا بالنقود فنزل من راحلته وأخذه من الأرض، وهو يقول: هذا (كمر) فلان، سبحان الله، كيف سبقنا إلى هذه الأرض؟ ! وبدأت تتكشف له أسرار عودة صاحبه على عقبه إلى نجد.
واصل الرجل رحلته إلى الشام، وهناك باع واشترى بماله ومال صاحبه، وحتي نما المال بين يديه، وربح العشر عشرين، وقفل عائدًا إلى (نجد).
وحين أصبح الصباح أقبلت رواحله على البلدة، فاستقبله الأهل والأصحاب، وأقيمت له ولائم الأفراح، وبعد أيام دعا صاحبه إلى قهوة الظهر، فدخل عليه ومضيا يتحدثنان، وفجاة قام الرجل، ووضع أمام صاحبه (كمرًا) مملوءًا بالنقود، وسأله:
أهذا (كمرك) الذي فقدته في الطريق؟
وتهلل وجه الرجل، وعادت إليه الحياة من جديد، وقال بلهفة وفرح، كمن رأى ابنه: إنه هو كما فقدته! !
وضحك صاحبه، وهو يعقب، وأضعًا فوقه كيسين من النقود الذهبية: وهذه أيضًا أرباح المتاجرة بمالك!
وقام الرجل فعانق صاحبه ودعا له وأثنى عليه!
(محكية تراثية) تحكي لنا عن مروءة وأمانة ونبل رجال (العقيلات) وأنهم كانوا رجالًا من الصحراء، تعلموا منها الصبر والحلم والنقاء، واكتسبوا من دروسها تعاليم راقية، وتخرجوا منها بمواهب ومؤهلات أهلتهم للفوز بمعركة الحياة في زمانهم
…
).
وموضوع ثانٍ بعنوان (باق من الزمن ثلاثون يومًا! ).
باقي من الزمن ثلاثون يومًا! :
لو قيل لمؤمن بالله سليم البدن، صحيح العقل: إنك سترحل بعد ثلاثين يومًا، ولن يقول له مخلوق قولًا كهذا، فذلك العلم غيب لا يعلمه إلا الله، ولكنه افتراض نفترضه، فعلى أي شيء تتوقع سيأسف عليه هذا المؤمن وهو يغادر هذه الدنيا الحلوة الخضرة التي عاش فيها زمنًا طويلًا عرف فيها ربه وعرف فيها نفسه، وعرف حياته الطويلة العريضة التي سيتركها فجأة بعد ثلاثين يومًا! ، يا لها من لحظات عجلى وقعها سريع وأسفها كبير وحيرتها شديدة على أطراف السعف! أفتراه سيأسف على ذلك المبنى الذي لم يُتمه، أم على ذلك المشروع الذي لم يكمله، أم على ذلك المال الذي لم يقبضه؟ ! لا أتخيل أن مؤمنًا بالله عاقلًا كيسًا سيأسف على شيء من حطام الدنيا الفاني، وعرضها الزائل الذي ليس منه فأبلى، ونال منه فأفنى!
إني لا أراه متأسفًا على شيء فاته إلَّا على عمر انقضى فجأة لم يجلس فيه سويعات خالصات نقيات صحب فيها كتاب الله الكريم وتنزيله العزيز يتلوه