الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نزول الآية (29):
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك، ذكر الله تعالى ما يليق بذلك، وهو آداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام، منعا من الوقوع في التهمة، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء الذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها؛ ولأن النظر والاطلاع على العورات طريق الزنى.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية شرعية ذات مدلول حضاري، وتمدن رفيع؛ لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات، حفظا لروابط الود والمحبة، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين، فقال تعالى:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلموا على أهل البيت، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم، ولا
تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين، فتحرجوهم أو تزعجوهم، فيحدث الاشمئزاز، والتضايق، والكراهية.
فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل، وكان السلام هو المألوف في الماضي حيث لم تكن أبواب الدور محكمة الإغلاق والستر بنحو كاف كاليوم؛ إذ لم يكن للدور حينئذ ستور.
والاستئناس: الاستعلام (طلب العلم) والاستكشاف، من آنس الشيء:
إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فمن أراد دخول بيت غيره عليه أن يستأنس، أي يتعرف من أهله ما يريدون من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان، بدليل قوله تعالى:{وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور 59/ 24]. وكان ابن عباس على الأصح فيما روي عنه يفسر الاستئناس بالاستئذان، ولا يحصل الاستئناس إلا بعد حصول الإذن بعد الاستئذان.
ويكون الاستئذان ندبا ثلاث مرات، فإن أذن للزائر وإلا انصرف، كما
ثبت في الصحيح لدى مالك وأحمد والشيخين وأبي داود عن أبي موسى وأبي سعيد معا أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا، فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فلينصرف» الحديث.
وظاهر الآية أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، إلا أن الأول مطلوب على سبيل الوجوب، والثاني على سبيل الندب كما هو حكم السلام في كل موضع. لكن الواجب في الاستئذان هو مرة واحدة، وأما الثلاث فهو مندوب، كما تقدم.
والظاهر أن الاستئذان متقدم على السلام؛ لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبه قال بعض العلماء، والجمهور على تقديم السلام على الاستئذان، بدليل ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه:
«السلام قبل الكلام» وما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم،
وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «السلام على رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟» .
والسلام يكون أيضا ثلاثا كما
أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا.
والحكمة من الاستئذان والسلام تحاشي الاطلاع على العورات، بدليل
ما رواه أبو داود عن هزيل قال: جاء رجل (قال عثمان: سعد) فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب، -قال عثمان: مستقبل الباب-فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «هكذا عنك-أو هكذا-فإنما الاستئذان من النظر»
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» .
والمراد من هذين الحديثين أن من أدب الاستئذان ألا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يجعله عن يمينه أو شماله، وألا ينظر إلى داخل البيت،
روي أن أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» وذلك سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا؛ فإن الطارق قد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.
والاستئذان واجب ولو كان الطارق أعمى؛ لأن من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، وقد يتأذى أهل البيت بدخول الأعمى، وأما
الحديث المتقدم:
«إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» فهو بحسب الغالب المعتاد.
ولا فرق في وجوب الاستئذان بين الرجال والنساء، والمحارم وغير المحارم؛ لأن الحكم عام، ولو كان الزائر والدا أو ولدا،
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم-فيما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار-: أأستأذن يا رسول الله على أمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت عليها؟ قال:«أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال:«فاستأذن عليها» .
وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود قال: «عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم» .
وروى الطبري عن طاوس قال: «ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم» وعلى هذا يكون الاستئذان على المحارم واجبا وتركه غير جائز، واستدل ابن عباس عن ذلك بقوله تعالى:{وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم.
وقوله تعالى: {بُيُوتاً} نكرة في سياق النهي فتفيد العموم الشامل للبيوت المسكونة وغير المسكونة، لكن الآية التالية:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} يقتضي حمل الآية الأولى على المسكونة فقط، ويصير المعنى: أيها المخاطبون لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا.
ثم ذكر تعالى حكمة الأمر بالاستئذان والسلام فقال:
{ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني الاستئذان والسلام خير وأفضل للطرفين: المستأذن وأهل البيت، من الدخول بغتة، ومن تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حييتم صباحا، وحييتم مساء،
ودخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وقوله {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمحذوف، أي أنزل عليكم أو أرشدكم ربكم لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بما هو أصلح لكم.
وكلمة {خَيْرٌ} هنا أفعل تفضيل، وكلمة «لعل» للتعليل، والحكم المعلل بها مفهوم مما سبق، أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب وبيّنه لكم، ليكون متذكرا منكم دائما، فتعملوا بموجبه.
ثم ذكر تعالى حكم حالة أخرى هي حالة فراغ البيوت من أهلها فقال:
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً، فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وفيها خبيئات لا يريد أحد الاطلاع عليها، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة. وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار، وإلا لم يجز الدخول.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً} المدار فيه على ظن الطارق، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد، فلا يحل له أن يدخلها.
لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة، كمداهمة البيت لحرق أو غرق أو مقاومة منكر أو منع جريمة ونحو ذلك.
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ: اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ} أي إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع، فارجعوا؛ فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، والوقوف على
الأبواب، أو القعود أمامها بعد أن تردوا، ففي ذلك ذل ومهانة وعيب، وإحراج لصاحب البيت.
{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي أن الله عليم بنياتكم وأقوالكم وأفعالكم، فيجازيكم عليها. وهذا وعيد لمن يخالف ما أرشد الله إليه، فإن القصد من هذا الإخبار هنا تقرير الجزاء على هذه الأعمال.
ثم بيّن الله تعالى حكم البيوت غير المسكونة، فقال:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} أي لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والمعاملة بيعا وشراء وغيرهما، والاغتسال، ونحو ذلك.
{وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} أي إن الله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول، وما تضمرونه من قصد سيء من حب الاطلاع على عورات الناس. وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للاطلاع على عوراتها، وهو شبيه بالوعيد الذي ختمت به الآية السابقة.
وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقا من دخول بيوت الآخرين، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، بغير إذن، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.