الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول، أمر الله تعالى بالاستئذان حين الخروج، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر مهم، ثم أمر المؤمنين بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورعاية الأدب في مخاطبته، وحذرهم من مخالفة أمره وسنته وشريعته.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية دينية إلزامية، وهي ثلاثة:
الأول-قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته وصحة رسالة رسوله من عنده، وإذا كانوا معه في أمر اجتماعي مهم، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد، أو مشاركة في مقاتلة عدو، أو تشاور في أمر خطير قد حدث، لم ينصرفوا عن المجلس حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأذن لهم.
وهذا الأدب مكمل لما سبقه، فلما أمر الله بالاستئذان حين الدخول، أمر بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأمر الجامع: هو الأمر الموجب للاجتماع عليه، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز.
روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة» .
ثم أعاد الله تعالى طلب الإذن على سبيل التأكيد بأسلوب أبلغ من طريق جعله دليلا على كمال الإيمان، ومميزا المخلص من غيره، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} أي إن الذين يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم في الانصراف، ويشاورونه في الخروج، هم من المؤمنين الكاملين المصدقين الله ورسوله، الذين يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه.
وبعد الاستئذان تعظيما للنبي ورعاية للأدب، تكون حرية الإذن له، فقال تعالى:
{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي إذا استأذنك أحد منهم في بعض ما يطرأ له من مهمة، فأذن لمن تشاء منهم على وفق الحكمة والمصلحة، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال له:«انطلق فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا، فو الله ما نراه يعدل.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص، لا تنسنا من صالح دعائك.
والآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بعض أمر الدين، ليجتهد فيه برأيه.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واطلب من الله أن يغفر لهم ما قد يصدر عنهم من زلات أو هفوات، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد التوبة.
وهذا مشعر بأن الاستئذان، وإن كان لعذر مقبول، فيه ترك للأولى، لما فيه من تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة، فالاستئذان مهما كانت أسبابه مما يقتضي الاستغفار، لترك الأهم.
ثم أمر الله تعالى أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يبجّل وأن يعظم وأن يسود، فقال:
{لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تدعوا رسول الله باسمه بأن تقولوا: يا محمد أو يا ابن عبد الله، ولكن عظموه، فقولوا:
يا نبي الله، يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض والتواضع، فهذا نهي من الله عز وجل عن مناداة النبي باسمه أو نسبه، وهو الظاهر من السياق، فلا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه.
وفي تفسير آخر: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة والانصراف من مجلسه بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرّم.
ثم حذر الله تعالى وأوعد المخالفين تلك الآداب فقال:
{قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً} قد: للتحقيق، أي إنه تعالى يعلم يقينا أولئك الذين ينسلون من المسجد في الخطبة أو من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خفية، واحدا بعد الآخر، دون استئذان، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم البواعث والدواعي، والخفايا والأسرار، والظواهر والأفعال والأقوال. روى أبو داود أن بعض المنافقين كان يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه، يستتر به، فأنزل الله الآية.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي فليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وصدّ وخرج عن أمره وطاعته، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، وهم
المنافقون، أن يتعرضوا لمحنة أو بلاء وامتحان في الدنيا من كفر أو نفاق، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة. وضمير {أَمْرِهِ} إما عائد إلى أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
والاية تدل على ان ظاهر الأمر للوجوب؛ لان تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، ومخالف الأمر مستحق للعقاب، فتارك المأمور به مستحق للعقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
والآية أيضا تعم كل من خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس المنافقين فقط.
ثم ختم تعالى السورة ببيان نطاق المخلوقات، وأنهم تحت سلطان الله وعلمه، فقال:
{أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} {قَدْ} للتحقيق أيضا كما هو حال ما قبلها، أي إن جميع ما في السموات والأرض مختص بالله عز وجل خلقا، وملكا، وعلما، وتصرفا وإيجادا وإعداما، يعلم كل ما لدى العباد من سر وجهر، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في سترها عن العيون وإخفائها. فقوله:{قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} معناه أنه عالم به، مشاهد إياه، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال:{وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [يونس 61/ 10].
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي إن الله تعالى سينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق الجزاء:{يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة 13/ 75]، {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف 49/ 18] والله ذو علم شامل محيط بكل شيء، يوفره لهم، ويفاجئهم به يوم الحساب والعرض عليه. وهذا دليل على فصل القضاء الذي يتفرد به الله تعالى.