الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} أي بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حيث توليد الضدّ من الضدّ، أي النار من البارد. {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} بالمعاقبة بينهما، فيأتي بكل منهما بدل الآخر، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك وهو الأولى. {إِنَّ فِي ذلِكَ} التقليب، وفيما تقدم ذكره.
{لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} للدلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عن الحاجة، لمن يتأمل ذلك من أهل العقول والبصائر.
{دَابَّةٍ} حيوان يدب على الأرض، وتستعمل عرفا للدواب ذوات الأربع. {مِنْ ماءٍ} هو جزء مادته، أو ماء مخصوص وهو النطفة، تنزيلا للغالب منزلة الكل؛ إذ من الحيوانات ما لا يتولد عن النطفة. {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ} كالحيات والهوام من الحشرات، وإنما سمي الزحف مشيا بطريق الاستعارة أو المشاكلة. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ} كالبهائم والأنعام، ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب، فإنها تعتمد في المشي على أربع. وتذكير الضمير في قوله:{فَمِنْهُمْ} والتعبير بمن لتغليب العقلاء، والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة. والترتيب في إيراد هذه المخلوقات لتقديم ما هو أدل على القدرة. {يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ} مما ذكر ومما لم يذكر، على اختلاف الصور في الأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ما استنارت به قلوب المؤمنين بالهداية، وما أظلمت به قلوب الكافرين بالضلالة، أتبع ذلك ببيان أدلة التوحيد والقدرة، فذكر منها أربعة: الأول-تسبيح المخلوقات، والثاني-إنزال الأمطار، والثالث-اختلاف الليل والنهار، والرابع-أنواع الحيوانات.
التفسير والبيان:
النوع الأول-تسبيح المخلوقات:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ} أي ألم تعلم بالدليل أيها النبي وكل مخاطب أن الله سبحانه ينزّهه ويقدّسه كل من في
السموات والأرض من العقلاء وغيرهم من الملائكة والإنس والجن والجمادات، ومنها الطير الباسطات القابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء لكيلا تسقط، تنزيها يدركه المتأمل بعقله السليم؛ إذ تكوينها بخصائصها المتفاوتة يدل بذاته على وجود الخالق لها.
والتنزيه يدل على اتصاف الخالق بجميع صفات الكمال، ويبطل قول الكفار الذين جعلوا الجمادات شركاء لله، ونسبوا إليه الولد، وهي من مخلوقاته وإيجاده. قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق.
وذكر الطير مع دخولها بما سبق لما فيها من دلالة خاصة على بديع الصنع الإلهي، وكمال القدرة الإلهية، ولطف التدبير لمبدعها؛ لأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجة واضحة على كمال قدرة الخالق المبدع.
والافتتاح بقوله {أَلَمْ تَرَ} يشير إلى أن تسبيح الكائنات لله عز وجل أمر واضح يصل إلى حد العلم الذي لا شك فيه.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} أي كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل. والله عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، سواء في حال الطاعة أو المعصية، ومجازيهم عليها.
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} أي إن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما خلقا وإماتة، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقّب لحكمه، وإليه وحده مصيرهم ومعادهم يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء، ويجازي بما أراد، كقوله تعالى:
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم 31/ 53].