الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإهلاك، بأن يفوتوا منها، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض {وَمَأْواهُمُ النّارُ} ومرجعهم النار، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ} كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار، والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم. {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المرجع هي، أو المأوى الذي يصيرون إليه.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه، والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: فينا نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
المناسبة:
بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها: وهي أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان
بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبي صلى الله عليه وسلم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله {مِنْكُمْ} من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [29].
وبما أن وعد الله صادق ومنجز، كما قال تعالى:{وَعْدَ اللهِ، لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ} [الزمر 20/ 39] فقد أنجز الله وعده، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة: الخلافة الراشدية، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (1924) حيث ألغى أتاتورك الخلافة.
ففي عهده صلى الله عليه وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وملك عمان.
وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك.
وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند.
واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.
وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس، وقبرص والقسطنطينية، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين.
وصدق
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد: «إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» .
ونظير الآية قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال 26/ 8]، وقوله سبحانه:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص 5/ 28 - 6].
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ} أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض، عزيزا قويا منيعا، مرهوب الجانب في نظر أعدائه، منصورا على ملة الكفر.
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال:«فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة-المرأة في الهودج-من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» .
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في
غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب» .
ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال:
{يَعْبُدُونَنِي 1 لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم.
روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذبهم» .
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} أي ومن ارتد أو كفر النعمة، كقوله تعالى:{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} [النحل 112/ 16]، أو خرج عن طاعة ربه وأمره، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة، وتناسوا فضل الله عليهم، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل
حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة» .
(1)
يعبدونني كما تقدم: هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم.