الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى عما لا يحل مما يفضي إلى السفاح أو الزنى المؤدي إلى اختلاط الأنساب كغض البصر وحفظ الفروج، أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج الحافظ للأنساب وبقاء النوع الإنساني وترابط الأسرة ودوام الألفة وحسن تربية الأولاد، فقال:{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} والخطاب للأولياء والسادة.
التفسير والبيان:
موضوع الآيات بيان طائفة من الأحكام والأوامر، أولها الأمر بالتزويج.
الحكم الثامن-ما يتعلق بالزواج:
قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} أي زوجوا أيها الأولياء والسادة أو أيتها الأمة جميعا بالتعاون وإزالة العوائق من لا زوج له من الرجال والنساء الأحرار والحرائر، ومن فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم وقدرة على القيام بحقوق الزوجية وساعدوهم على الزواج بالإمداد بالمال، وعدم الإعاقة من التزويج، وتسهيل الوسائل المؤدية إليه. والصحيح أن الخطاب للأولياء، وقيل: للأزواج.
وظاهر الأمر في رأي الجمهور للندب والاستحباب والاستحسان؛ لأنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر أحد عليهم، ولأنه ليس للولي إجبار الأيم الثيب لو أبت التزوج، ولاتفاق العلماء على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته.
وذهبت طائفة من العلماء كالرازي إلى أن ظاهر الأمر هنا للوجوب على كل من قدر عليه،
لخبر الصحيحين عن ابن مسعود: «يا معشر الشباب من استطاع
منكم الباءة-مؤن الزواج-فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء». ولما
جاء في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» . ورتبوا على القول بالوجوب ألا يجوز النكاح إلا بولي.
والمراد بالصلاح: معناه الشرعي وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه. وقيل:
المراد به المعنى اللغوي وهو أهلية النكاح والقيام بحقوقه. والعباد كالعبيد: جمع عبد وهو الذكر من الأرقاء. والإماء جمع أمة، وهي الأنثى الرقيقة. وقوله {وَالصّالِحِينَ} بتغليب الذكور على الإناث، واعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى الأحرار والحرائر؛ لأنه عنصر مشجع على التغاضي من قبل السيد عن منافع العبيد والإماء، فلا يدفعهم إلى التزويج إلا استقامة هؤلاء المماليك وصلاحهم أو ظن قيامهم بحقوق الزوجية.
واستدل الإمام الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} على جواز تزويج الولي البكر البالغة بدون رضاها؛ لأن الخطاب في الآية للأولياء، فهم المأمورون بالتزويج لمن لهم الولاية عليهم، سواء كانت المولية كبيرة أم صغيرة، وسواء رضيت أم لم ترض. ولولا وجود أدلة أخرى من السنة على أنه لا يزوج الولي الثيب الكبيرة بغير رضاها، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة، لعموم الآية. لكن
قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: «البكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» يدل على وجوب استئذانها واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية.
واستدل الشافعية بالآية على أن المرأة لا تلي عقد الزواج؛ لأن المأمور بتزويجها وليها، لكن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا بندبهم إلى المساعدة في التزويج، فيؤخذ حكم مباشرة العقد من غير هذه الآية.
واستدل بعض الحنفية بظاهر الآية: {وَأَنْكِحُوا} على أنه يجوز للحر أن
يتزوج بالأمة، ولو كان مستطيعا مهر الحرة. ورد الشافعية بأن قوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} -مهرا- {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ} [النساء 25/ 4] أخص من هذه الآية، والخاص مقدم على العام. كما أن العلماء أجمعوا على أن عموم الأيامى في الآية {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى} مقيد بشروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة كالجمع بين الأختين ونحوهما كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
واستدل العلماء بقوله تعالى: {وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ} على أمرين:
الأول-أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما.
والثاني-أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد، منعا من تفويت استعمال حقه، ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو زان» .
ثم أزال الله تعالى التعلل بعدم وجدان المال فقال:
{إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} هذا وعد بالغنى للمتزوج، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، سواء فقر الخاطب أو المخطوبة، ففي فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ولا حد لقدرته، عليم بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على وفق الحكمة والمصلحة.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» . وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. إلا أن إغناء المتزوج مشروط بالمشيئة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة 28/ 9] وقوله هنا: {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم المصلحة فيعطي بالحكمة.
وضمير {إِنْ يَكُونُوا} راجع إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، فيكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة. وقيل: إنه يرجع إلى الأيامى الأحرار والحرائر فقط؛ لأن المراد بالإغناء في قوله تعالى:
{يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو تمليك ما يحصل به الغنى، والأرقاء لا يملكون.
واستدل بعض العلماء بالآية على عدم جواز فسخ الزواج بالعجز عن النفقة؛ لأن الله تعالى لم يجعل الفقر مانعا من التزويج في ابتداء الأمر، فلا يمنع استدامة الزواج بالأولى. وعلى كل حال فإن المقصود بالآية أنه يندب ألا يرد الخاطب الفقير ثقة بما عند الله، كذلك يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر.
ويفهم من الآية أنه يندب للفقير أن يتزوج ولو لم يجد مؤن الزواج؛ لأنه إذا ندب الولي إلى تزويج الفقير، ندب الفقير نفسه إلى الزواج.
وبعد الأمر بتزويج الحرائر والإماء أغنياء أو فقراء، وضع القرآن العلاج لحال العاجز عن وسائل الزواج، ولم يجد أحدا يزوجه، فقال تعالى:
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من نفقات الزواج، ويكون المراد بالنكاح حقيقته الشرعية، وبالوجدان التمكن منه، ويجوز أن يراد بالنكاح هنا ما ينكح به، كركاب الذي هو اسم آلة لما يركب به. والمراد بالآية توجيه العاجزين عما يتزوجون به أن يجتهدوا في التزام جانب العفة عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون، فالتعفف عن الحرام واجب المؤمن، وفي الآية وعد كريم من الله بالتفضل عليهم بالغنى، فلا ييأسوا ولا يقلقوا.
جاء في الحديث الصحيح المتقدم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه