الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته-كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب-وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلو العدد-أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى:{وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى} الآية.
نزول الآية (61):
{أَفَمَنْ وَعَدْناهُ} : أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْناهُ} الآية، قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.
المناسبة:
بعد بيان إيمان طوائف من أهل الكتاب، ذكر الله تعالى شبهة المشركين في امتناعهم عن الإيمان، ثم رد عليها بأجوبة ثلاثة، مفتتحا الكلام بتقرير أن الهداية للدين وهي هداية التوفيق هي لله تعالى لا لرسوله، وأثبت له في آية.
أخرى هي {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى 52/ 42] هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
التفسير والبيان:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية من أحببت هدايته هداية توفيق، فليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، والله هو الذي يستطيع هداية من يشاء هداية توفيق وشرح صدر، بأن يقذف نورا في قلبه، فيحيى به، كما قال سبحانه:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ}
[الأنعام 122/ 6] وله الحكمة البالغة، وربّك هو العالم بالمستعدين للهداية، فيهديهم، لأنهم مستحقون لها، وعالم أيضا بالمستعدين للغواية، فلا يهديهم، لأنهم لا يستحقونها. والمراد بالآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم تمكنه من هداية قومه.
ويلاحظ أنه لا دلالة في ظاهر هذه الآية على كفر أبي طالب، لكن الثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بينت، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمدا وصدقوه، تفلحوا وترشدوا،
فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عم، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف» . قال القرطبي: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص البخاري ومسلم.
ونظير الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [البقرة 272/ 2] وقوله تعالى: {وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف 103/ 12].
والخلاصة: أن الهداية-كما ذكر الرازي: -بمعنى الإلجاء والقسر غير جائز، لأن ذلك قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو
الحاجة، وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله تعالى، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة
(1)
.
ثم أخبر الله تعالى عن شبهة المشركين في عدم إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، واعتذارهم بعذر واه، فقال:
{وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا} أي قال المشركون:
نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، ويخرجونا من ديارنا.
فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بثلاثة أجوبة:
1 -
تأمين الحرم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم آمن معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم إن أسلموا واتبعوا الحق؟ ومن خصائص الحرم المكي: أنه يحمل إليه من سائر الثمار في كل البلدان، كما تحمل إليه أصناف المتاجر والأمتعة، تفضلا بالرزق من عند الله، ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون
(2)
لما فيه الخير والسعادة، ولا يتفكرون ليعلموا الأحق بالعبادة، ويقلعوا عن عبادة ما سواه.
2 -
التذكير بإهلاك الأمم: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً، وَكُنّا نَحْنُ الْوارِثِينَ} أي ليعلم
(1)
تفسير الرازي: 3/ 25
(2)
فطن للشيء يفطن بالضم فطنة، وفطن-بالكسر-فطنة أيضا.
هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النعم أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النعم، فكثيرا ما أهلك الله من القرى أي أهلها التي أبت الإيمان، وكفرت، وبغت وطغت وأشرت، وجحدت بأنعم الله وأرزاقه المغدقة، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكن فيها أحد إلا لمدة قليلة، يبيت فيها المارة يوما أو بعض يوم، وأصبح الوارث هو الله؛ لأنها رجعت خرابا ليس فيها أحد يخلفهم فيها. ويقال للشيء الذي ترك بلا مالك: إنه ميراث الله، لأنه المالك الحقيقي للكون، والباقي بعد فناء خلقه.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ، فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل 112/ 16].
ثم أخبر تعالى عن عدله في إنزال العقاب، فقال:
{وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ} أي وما كانت عادة ربك وسنته أن يهلك المدن والقرى بأهلها حتى يرسل في أصلها وعاصمتها وأكبرها رسولا يبين لهم الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وأحقيته بالعبادة، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ولا عذر بعدم معرفة الحق، فيهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولا يهلك أهل القرى أو أحدا من خلقه إلا وهم ظالمون أنفسهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات.
وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا إهلاك مع إيمان، وإنما العقاب والهلاك حال الظلم واجتراح المعاصي، واقتراف المنكرات والآثام التي أكبرها الشرك بالله تعالى.
وللآية نظائر كثيرة منها: {وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء 15/ 17].
وفي الآية دليل على أن النبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى (مكة) رسول إلى جميع القرى من عرب وعجم، كما قال تعالى:{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} [الشورى 7/ 42] وقال سبحانه: {قُلْ: يا أَيُّهَا النّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف 158/ 7] وقال عز وجل: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام 19/ 6].
3 -
التدين أو الإيمان لا يضيع منافع الدنيا: {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي إن الدنيا وما فيها من زينة وزخرف ومتاع فانية حقيرة بالنسبة لما أعده الله لعباده الصالحين من المنافع والنعم في الدار الآخرة، فكل ما أعطيتم أيها الناس من أموال وأولاد وزينة وزخارف، فهو مجرد متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا، وهو زائل وزهيد إذا قيس بنعم الآخرة، فنعيم الآخرة باق دائم خير في ذاته من متاع الدنيا، كما قال تعالى:{ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ} [النحل 96/ 16] وقال سبحانه: {وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ} [آل عمران 198/ 3] وقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [الأعلى 16/ 87 - 17]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: «والله، ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه» !! أفلا يعقل ويتفكر من يقدّم الدنيا على الآخرة، أفلا يتدبر من يؤثر الفاني على الباقي!! ألا فليفكر الإنسان في اختيار ما هو الخير الدائم له، ويترك الشر الذي يصيبه بالأذى.
ثم أكّد الله تعالى ذلك المعنى فقال: