الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنعامك علي بالمغفرة اعصمني فهو استعطاف، أو هو قسم محذوف الجواب، أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} أي فلن أكون معينا لمن أجرم بعد هذه إن عصمتني.
{خائِفاً يَتَرَقَّبُ} ينتظر ما يناله من أذى أي استقادة أو قود (قصاص). {اِسْتَنْصَرَهُ} طلب نصره وعونه. {يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيث به على قبطي آخر. {لَغَوِيٌّ} ضال. {مُبِينٌ} بيّن الغواية. {فَلَمّا أَنْ} زائدة. {يَبْطِشَ} يضرب بسطوة وقوة وصولة. {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما} لموسى والمستغيث به. {قالَ} القبطي المصري، أو قال الإسرائيلي المستغيث؛ لأنه سماه غويا، فظن أنه يبطش به. {إِنْ تُرِيدُ} ما تريد. {جَبّاراً فِي الْأَرْضِ} تتطاول على الناس ولا تنظر العواقب. {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} يبغون الإصلاح بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن. ولما قال هذا سمع القبطي، وانتشر الحديث وبلغ الخبر إلى فرعون وملئه، فعلم أن القاتل موسى، فأخبر فرعون بذلك، فأمر فرعون الذبّاحين بقتل موسى، فهموا بقتله.
{وَجاءَ رَجُلٌ} هو مؤمن آل فرعون. {أَقْصَى الْمَدِينَةِ} آخرها أو من أبعد جهاتها.
{يَسْعى} يسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم. {إِنَّ الْمَلَأَ} أشراف قوم فرعون.
{يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به. {فَاخْرُجْ} من المدينة. {إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ} في الأمر بالخروج. واللام للبيان، وليس صلة للناصحين لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول. {يَتَرَقَّبُ} يتلفّت يمنة ويسرة.
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله به على موسى عليه السلام من إنجائه صغيرا من الذبح على يد فرعون، وإيتائه الحكمة والعلم كبيرا تهيئة للنبوة، ذكر ما أنعم به عليه من الخروج آمنا من مصر بعد قتله قبطيا مصريا، كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين.
التفسير والبيان:
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها} أي ودخل موسى المدينة التي كان يسكنها فرعون، وهي قرية على بعد فرسخين من مصر، هي-كما قال
الضحاك-عين شمس، وذلك في وقت لا يتوقع دخوله فيها، وهو إما وقت القيلولة في نصف النهار وقت الظهيرة والناس نيام، أو ما بين المغرب والعشاء.
{فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أي فوجد موسى في تلك المدينة رجلين يتضاربان ويتنازعان، أحدهما إسرائيلي من حزبه وجماعته، والآخر قبطي مصري مخالف لموسى في العقيدة والدين، وهو طباخ فرعون، كان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي من موسى النجدة والعون على عدوه القبطي، فضربه موسى بيده، فقضي عليه، أي كان الضرب مفضيا إلى الموت، وواراه التراب، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.
ثم ندم موسى على ما فعل، فقال: هذا الحادث من تزيين الشيطان وإغرائه.
{إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} أي إن الشيطان عدو للإنسان، مضل له أي موقع له في الضلال والخطأ، بيّن العداوة والإضلال، ثم تاب من فعله فقال:
{قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} أي قال موسى: يا رب، إني ظلمت نفسي بهذا الفعل، وهو قتل نفس بريئة، فاستر لي ذنبي، ولا تؤاخذني بما جنت يدي، فإني أتوب إليك، وأندم على فعلي.
وقد عدّ ذلك ذنبا، لأن القتل لا يحل أصلا، وذلك معروف من شرائع الأنبياء المتقدمين. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه، وإن هذا كان قبل النبوة.
روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من هاهنا-وأومأ بيده نحو المشرق-من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عز وجل: {وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنّاكَ فُتُوناً}» .
{فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي فعفا عنه وقبل توبته، إنه تعالى الستار لذنوب عباده المنيبين إليه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة والإنابة، فشكر موسى ربه:
{قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} أي قال موسى: يا رب اعصمني من الخطأ بحق ما أنعمت علي من المعرفة والحكمة والتوحيد، ومن الجاه والعز والنعمة، فلن أكون إن عصمتني معينا لمن ظلم وأجرم وأشرك. أو أقسم بإنعامك علي بهذه النعم الكثيرة لأتوبن، ولن أناصر المشركين.
قال القشيري: ولم يقل لما أنعمت علي من المغفرة؛ لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل.
وذكر الماوردي وغيره أن الإنعام بالمغفرة أو الهداية. قال القرطبي: {فَغَفَرَ لَهُ} يدل على المغفرة، والله أعلم.
وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون؛ وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النّارُ} [هود 113/ 11].
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي فصار موسى بعد حادثة قتل القبطي المصري خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل، فيطلب به، وصار يتلفت ويتوقع أن يقتل بسبب جنايته، فسار في بعض الطرق متخفيا مستترا، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري، يطلب منه العون والغوث على مصري آخر، فقال له موسى: إنك ظاهر الغواية، كثير الفساد والشر والضلال.
{فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} أي فلما أراد موسى زجر عدوهما وهو القبطي، قال له مستنكرا مستهجنا: أتريد الإقدام على قتلي كما قتلت نفسا البارحة، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، قال الرازي: والظاهر هذا الوجه؛ لأنه تعالى قال: {فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى} فهذا القول إذن منه، لا من غيره، وأيضا فقوله:{إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ} لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر.
وقال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي مبين، ورآه على غضب، ظن-لما همّ بالبطش-أنه يريده؛ لخوره وضعفه وذلته، فقال هذا القول، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف؛ لأنه لم يكن يعلم بحادثة الأمس غير هذا العبري، فلما سمعها ذلك القبطي، نقلها إلى فرعون، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى.
{إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون قتّالا بطاشا، مستعليا، كثير الأذى في الأرض، دون أن تنظر في العواقب، ولا تريد أن تكون من أهل