الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اُعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء عذابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر فيهما، إن كنتم ذوي إدراك وعلم، تميزون به بين الخير والشر، وتفعلون ما ينفعكم.
فقوله: {اُعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ} معناه: أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه، وشر ما يسيرون عليه، فقال:
الدليل الأول:
{إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر، صنعتموها بأيديكم، فلا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، فسميتموها آلهة، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة.
فقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} معناه: تختلقون الإفك أي الكذب والباطل، بتسمية الأوثان آلهة، وشركاء لله، أو شفعاء إليه.
الدليل الثاني:
{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فكيف تعبدونها؟!
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي فاطلبوا الرزق من عند الله، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، فإن غيره لا يملك شيئا، تدركوا ما تطلبون، فكلوا من رزق الله، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من مزيد الفضل، واستعدوا للقائه، فإليه ترجعون يوم القيامة، وتسألون عما أنتم عليه من عبادة غيره، ويجازي كل عامل بعمله.
ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة، فقال:
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وإن تكذبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، فأضروا أنفسهم بذلك، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، وعلى الله الحساب.
فقوله: {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} معناه: لا واجب عليه إلا التبليغ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله، والإبانة: وهي إقامة البرهان على ما جاء به.
وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي، فقال:
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا
مذكورا، وزودهم بالقدرة الجسدية وبطاقات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، فإن الذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه، يسير لديه، بل هو أهون عليه، كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم 27/ 30].
وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق، فقال:
{قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قل يا محمد: سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار، وأشجار وأثمار، وأنهار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت 53/ 41] وقوله سبحانه:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور 35/ 52 - 36].
هذا هو المتفرد بالخلق، وذلك دليل على وجوده، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة، فإن الله قدير على كل شيء، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل {كَيْفَ يُبْدِئُ} للدلالة على القدرة المستمرة، ثم عبّر بلفظ الماضي {كَيْفَ بَدَأَ} للعلم بما بدأ.
ويلاحظ أنه تعالى قال أولا {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ} بصيغة الاستفهام، ثم قال:{سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} بصيغة الأمر؛ لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي: وهو الحاصل من غير طلب، والآية الثانية إشارة إلى
العلم الفكري الحاصل بالتفكير والطلب، أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، لتعلموا بدء الخلق.
ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال:
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فله الخلق والأمر، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد، فيحاسب الخلائق على ما قدموا، وحسابه حق وعدل؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما
جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن: «إن الله لو عذّب أهل سماواته، وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم» . وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة، مع أن الرحمة سابقة كما
في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي» لأنه ذكر الكفار أولا، ولمناسبته التهديد السابق بقوله:{وَإِنْ تُكَذِّبُوا.} .. وإعادة {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} بعد قوله:
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا، فلا بدّ من حصولهما، فإن إليه الإياب وعليه الحساب، وعنده يدخر الثواب والعقاب.
{وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض، ولا يقدر على الهرب من قضائه، بل هو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم.
وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد، والقدرة الإلهية الفائقة التصور، والتوحيد، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر، فقال: