الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن قتادة قال: أنزلت {الم، أَحَسِبَ النّاسُ} في أناس من أهل مكة خرجوا، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض لهم المشركون، فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم، فخرجوا فقتل من قتل، وخلص من خلص، فنزل القرآن:{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ:«سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت:{الم. أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.} . الآية.
التفسير والبيان:
{الم} هذه الحروف المقطعة بدئ بها لتنبيه السامع وطلب إصغائه وإشعاره بإعجاز القرآن الدال على كونه كلام الله الحكيم الخبير.
وقد لاحظ الرازي
(1)
أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كأوائل سورة البقرة {الم، ذلِكَ الْكِتابُ} وآل عمران {الم}
…
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} والأعراف {المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ويس {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} وص {ص، وَالْقُرْآنِ} وق {ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، والحواميم (غافر أو المؤمن، وفصلت أو السجدة، والشورى) إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت، والروم.
وقد حصل التنبيه في القرآن بغير حروف التهجي التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى في أول سورة الحج:{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(1)
تفسير الرازي: 26/ 25 وما بعدها.
وفي أول سورة الأحزاب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} وفي أول سورة التحريم: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ} .
والسبب في بدء هذه السورة بهذه الحروف، وليس فيها الابتداء بالقرآن أو الكتاب هو الإشارة إلى مبدأ التكليف، وجميع التكاليف فيها ثقل على النفس، فبدئ بحروف التنبيه للفت النظر إلى خطورة ما يلقى بعدها.
{أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} أي أظن الناس بعد خلقهم أن يتركوا بغير اختبار بمجرد قولهم: آمنا بالله ورسله، وهم لا يمتحنون بمشاق التكاليف كالهجرة والجهاد في سبيل الله، ومقاومة الشهوات، ووظائف الطاعات والفرائض المالية والبدنية من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها، والتعرض للمصائب في الأنفس والأموال والثمرات، ليتميز المؤمن المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ونجازي كل واحد بحسب عمله.
وهذا استفهام إنكار، معناه أن الله تعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما
جاء في الحديث الصحيح: «أشدّ الناس بلاء:
الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد له في البلاء».
ونظير هذه الآية قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} [آل عمران 142/ 3] وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة 214/ 2].
وقد بينت أن هذه الآية نزلت في بعض المؤمنين في مكة، الذين كان كفار
قريش يعذبونهم على الإسلام ويؤذونهم بأشد أنواع الإيذاء، كعمار بن ياسر وأمه سميّة وأبوه ياسر، وعيّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام.
ويظهر أن التعرض للأذى باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما دام هناك إسلام يمثل جوهر الحق، وعقيدة صحيحة تتحدى تيارات الإلحاد والكفر والعلمانية وأوضار الوثنية في كل أنحاء الأرض، وما دام قرآن مجيد يحافظ على وجود المسلمين، ويتلى في كل مكان. ولن تفلح قوى الشر في إخفات صوت الإسلام، ودفن صرح التدين، وتصفية جند الإيمان بالله عز وجل، قال ابن عطية: وهذه الآية، وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال، فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر؛ لأن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.
وليس الافتتان والإيذاء بدعا بين المسلمين، وإنما هو سنة الله الدائمة في خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل، لذا قال تعالى تسلية لهم:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} أي وتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء القدامى بأنواع عديدة من الشدة والمشقة والضرر، كما قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ} [آل عمران 146/ 3].
والهدف من الاختبار أن يعلم الله علم ظهور وانكشاف، أي يظهر الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، وسيجازي كل واحد بما قدّم. والله يعلم سلفا ما كان وما يكون وما لم يكن، ولو كان كيف يكون، بإجماع أهل السنة والجماعة، لذا قال ابن عباس في مثل قوله تعالى:{إِلاّ لِنَعْلَمَ} : إلا لنرى؛ لأن الرؤية تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
ويلاحظ أنه تعالى قال في حق المؤمنين: {الَّذِينَ صَدَقُوا} بصيغة الفعل، أي وجد منهم الصدق، وقال في حق الكافرين:{الْكاذِبِينَ} بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبات والدوام. هذا فضلا عن أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة.
وقد ورد في السنة الصحيحة أخبار ونماذج من تعذيب المؤمنين قبل الإسلام، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال:
«شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال:
قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك!! قال: إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:
الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها
(1)
، وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء».
والخلاصة: أن الحياة ميدان كفاح وجهاد وشقاء وعناء، وكلما عظمت
(1)
وفي الجامع الصغير للسيوطي: «يجوبها» أي يخرقها ويقطعها، وهو أولى.
المسؤولية عظم قدر المسؤول، وكلما أهملت المسؤولية أو التبعة أهمل المسؤول، فالتكليف دليل التكريم، وهو رمز الشخصية وإثبات الذات، ولا طعم للحياة دون عمل وتكليف؛ لأن لذة الحياة ومتعتها أن يعمل الإنسان لغاية وهدف معين، وإلا كان الأمر عبثا موقعا في السأم والحيرة، فالحمد لله على التكليف، والشكر له على الابتلاء والاختبار، ليتميز العامل من العابث، والملتزم المتقن من المتسيب الذي لا يبالي بشيء.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يفوتونا فلا نجازيهم؟ لن يفلتوا من عذابنا، بئس ما يظنون، وبئس الحكم ما حكموا بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ولا يعاقبون، إنه حكم مغلوط سيء رديء، يتنافى مع مقتضى العقل والشرع والعدل.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل والأسود، والعاص بن هشام، وعتبة والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاص بن وائل.
وبعد بيان أن من ترك التكليف عذّب، بيّن سبحانه أن من آمن بالآخرة وعمل لها، يجد ثواب عمله فقال:
{مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ، فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي من كان يتوقع الخير ويطمع ويأمل في ثواب الله الجزيل في الدار الآخرة، ويعمل صالحا، فإن الله سيحقق له رجاءه، ويوفيه عملا كاملا غير منقوص، فإن وقت البعث والحياة الثانية بالحشر كائن لا محالة، والله سميع الدعاء وجميع أقوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء، عليم بصير بكل الكائنات، يعلم عقائدهم وأعمالهم، ويجازي كل واحد بما عمل. وهذا دليل على تأكد حصول الوعد
والوعيد، وحث على المبادرة بالعمل الصالح الذي يصدق الرجاء ويحقق الأمل ويكتسب به القربة عند الله والزلفى.
وأجل الله: يمكن أن يكون المراد به الموت، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بعد الحشر.
وقوله: {مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ} شرط وجزاء، والمراد وعد المطيع بما يعده من الثواب، فمن كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت بثوابه، يثاب على طاعته عنده، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو.
لكن نفع التكليف للمكلف لا لله تعالى:
{وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} أي ومن جاهد نفسه وهواه، فأدى ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه، فإن ثمرة جهاده تعود له، ونفع عمله لنفسه لا لغيره، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت 46/ 41]، {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء 7/ 17] فإن الله غني عن أفعال عباده وجميع خلقه من الإنس والجن.
ونوع جزاء المطيع هو:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} أي إنه تعالى مع غناه عن الخلائق جميعهم، فإنه يجازي أحسن الجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض وفعل الخيرات، من مواساة البائسين وإغاثة المظلومين، ودعم أمتهم بالنفس والنفيس، وأحسن الجزاء: هو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الواحد