الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات اللغوية:
{يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} الموجودين في زمان نبينا {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح {لَهُدىً} من الضلالة {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} من العذاب وخص بالمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به {يَقْضِي بَيْنَهُمْ} يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة {بِحُكْمِهِ} بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب، فلا يرد قضاؤه {الْعَلِيمُ} بحقيقة ما يقضي فيه، فلا معقب لحكمه.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} ثق به، ولا تبال بمعاداتهم {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الدين البيّن، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه، فإنه سينصرك على الكفار {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ} تعليل آخر للأمر بالتوكل، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان {مُدْبِرِينَ} راجعين فارّين هاربين؛ لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد.
{وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر {إِنْ تُسْمِعُ} أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول {إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا} يصدق بالقرآن {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} مخلصون بتوحيد الله.
المناسبة:
بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية، الحسية والعقلية، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه.
التفسير والبيان:
إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب، وهما أصلان للدين، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية:
1 -
الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني
إسرائيل، وهم حملة التوراة والإنجيل، بالحق في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها، كاختلافهم في عيسى عليه السلام، فاليهود افتروا عليه، والنصارى غلوا في شأنه، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله، ونبي من أنبيائه ورسله الكرام. وهذه الحقيقة وغيرها من القصص لا تعرف إلا بالوحي الإلهي من عند الله تعالى؛ لأن محمد صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن كان أميا لا يقرأ لا يكتب، ولم يتتلمذ على أحد من العلماء للتعلم ومعرفة شؤون الثقافة، ولأن هذه القصص المذكورة في القرآن موافقة لما في التوراة والإنجيل.
2 -
إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية:
{وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته، فدل على إعجازه، وخروجه عن طاقتهم، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية؛ لأنهم المنتفعون به.
وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين:
الأول-إقامة الدليل على عدل الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم، ومكافأة المحسن منهم، فلا يرد قضاؤه، العليم بأفعال عباده وأقوالهم، فيقضي بالصواب المطابق للواقع؛ لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.
ومعنى {يَقْضِي} .. {بِحُكْمِهِ} أي يقضي يوم القيامة بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما، أو أراد أنه يقضي بحكمته.
الثاني-أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه، وبلّغ رسالة ربك، ولا تلتفت إلى أعداء الله، فإنك أنت على الحق الواضح، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال:
{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا؛ لأن على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا، فإنه لا يجرأ على مخالفته.
وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي.
ومعنى قوله: {إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} تأكيد لحال الأصم؛ لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته.
والخلاصة: إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه؛ لأنه على الحق المبين، وغيره على الباطل، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.