الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح كما قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء 40/ 4].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
الدنيا دار ابتلاء واختبار وتكليف بالشاق من الأعمال، فلا يكفي مجرد إعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله، بل لا بدّ من الابتلاء بأنواع المصائب، وألوان الطاعات؛ لأن المقصد الأسمى من العبادة محبة الله، كما
ورد في الخبر الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه» فإذا قال الإنسان: آمنت بالله بلسانه، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فاحتاج إلى شهود تصدقه، وأداء الطاعات والقربات، واجتناب المحظورات شهود عيان للتصديق.
ويكون الابتلاء سبيلا للرقي من أول الدرجات إلى أعلى الدرجات، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [المجادلة 11/ 58] وقال سبحانه: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء 95/ 4].
2 -
الابتلاء سنة الله في خلقه، وعادته في عباده، فقد ابتلى الله الماضين كإبراهيم الخليل ألقي في النار، وكيحيى الحصور الذي قتل، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله، فلم يرجعوا عنه، كما تقدم بيانه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون وقومه، كما ابتلوا بقارون، وأصابهم الجهد الشديد، وابتلي المؤمنون بعيسى بمن كذبه وأعرض عنه، وهمّ بقتله، وهم اليهود وحكام عصره.
3 -
الهدف من الابتلاء إظهار صدق الصادقين في إيمانهم وتبيّنه في واقع الأمر، وكشف كذب الكاذبين الذين يدّعون الإيمان بالله، وهم كافرون به.
4 -
لن يفلت الكافرون والمجرمون والعصاة من العقاب، فإن ظنوا الإفلات، فبئس الحكم حكمهم.
5 -
لا بدّ من أن يجازي المحسن بإحسانه يوم القيامة.
6 -
هذه الحقائق الثلاث المتقدمة وهي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يطمع في لقاء ربه، حاصلة لا شك فيها، ولكن من جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار، وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، ويكون ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله شيء من النفع، ومن أهمل جهاد نفسه، ولم يؤد طاعة ربه، ولم يتجنب الحرام، فإنما يسيء لنفسه:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها} [فصلت 46/ 41]{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} [الإسراء 7/ 17].
والله غني عن أعمال عباده، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
7 -
إن نوع جزاء العمل الصالح لا مثيل له في الدنيا عند أحد من الخلائق، فإن الله تعالى يغطي السيئات بالمغفرة، ويضاعف الحسنات وثواب الطاعات، ولا يهمل شيئا منها مهما قلّ، وإنما يقدره على أحسن وجه وأكمله، ويجازي الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بأحسن أعمالهم.
8 -
الآيات في الجملة تعرّف بحقائق الدنيا، فهي قائمة على الابتلاء والاختبار، وتشحذ العزائم لزرع العمل الصالح في الدنيا، وتؤكد أن يوم الجزاء قريب الحصول، لإقامة العدل بين المحسن والمسيء، وتبين أن العمل الصالح خير للإنسان نفسه لا لغيره، والله غني عن العالمين.
9 -
دلت آية {وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} على وجوب إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له؛ لأن من علم أن الله يراه
ويبصره يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن نفعه له، ومقدّر بقدر عمله، يكثر منه.
10 -
الجزاء على العمل بحكم الوعد لا بالاستحقاق. وتدل الآية المتقدمة على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله؛ لأنه ليس هناك سلطان أعلى من الله يوجب شيئا عليه، والعبد أدنى منه، وتدل أيضا على أن الله تعالى ليس في مكان معين، وليس على العرش على الخصوص، لأن العرش من مخلوقات الله، والله غني عنهم.
11 -
في هذه الآية أيضا بشارة وإنذار، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين، فلو أهلك عباده فلا شيء عليه لغناه عنهم، وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده، لا شيء عليه؛ لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام.
12 -
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} يدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان؛ لأن العطف يفيد التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه.
والإيمان: التصديق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره. والعمل الصالح: كل ما أمر الله به، فيصير صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا، ولا بقاء للعمل الصالح إلا إذا كان لوجه الله الباقي حتى يبقى، وما لا يكون لوجهه لا يبقى، لا بنفسه لأنه عرض زائل، ولا بالعامل؛ لأنه ميت هالك، ولا بالمعمول له؛ لأن غير الله فان، فالعمل الصالح: هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله.
والنية: شرط في الصالحات من الأعمال، وهي قصد الإيقاع لله. والعمل الصالح: لا يرتفع إلا بالكلم الطيب وهو الإيمان، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل.
وقد ذكر الله في الآية نوعين من أعمال العبد: الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين: تكفير السيئات وهو في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن وهو في مقابلة العمل الصالح.
وهذا كما قال الرازي يقتضي أمورا ثلاثة:
الأول-المؤمن لا يخلد في النار؛ لأنه بإيمانه تكفر سيئاته، فلا يخلد في النار.
الثاني-الجزاء الأحسن المذكور هنا غير الجنة؛ لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة، ولا يبعد أن يكون الجزاء الأحسن هو رؤية الله عز وجل.
الثالث-الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا، فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسّن حالة صاحبه في الدنيا، فيجزى الجزاء الأحسن في العقبى، والإيمان لا يبطله العصيان، بل هو يغلب المعاصي ويسترها، ويحمل صاحبها على الندم
(1)
.
13 -
أجمل الله حال المسيء بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ.} . إشارة إلى التعذيب، وحال المحسن بقوله:{وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ} ثم فصل حال المحسن بآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ.} . ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه، وفضله أعم من عدله.
(1)
تفسير الرازي: 34/ 25.