الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفعاله وعواقبها المحمودة في الدنيا والآخرة، فربما كان الأمر كريها إلى النفوس في الظاهر، محمود العاقبة في الحقيقة ونفس الأمر، كما قال تعالى:{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة 216/ 2] وقال تعالى: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء 19/ 4].
{وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى، آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي ولما اكتملت قواه الجسدية والعقلية آتيناه الحكمة والعلم وفقه الدين وعلم الشريعة، ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه نجزي المحسنين على إحسانهم. وقد رجح الرازي أن المراد بالحكم هنا الحكمة والعلم، لا النبوة
(1)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1 -
قد يطلق الوحي على الإلهام؛ لأن الوحي لا يكون إلا لنبي، وقد أجمع العلماء على أن أم موسى وأم عيسى لم تكن واحدة منهما نبية، وإنما ذلك من قبيل الإلهام، كإلهام النحل اتخاذ البيوت.
وقد ألهم الله أم موسى بعد ولادته أن ترضعه، فإذا خافت عليه من القتل ألقته في البحر، دون خوف عليه من الغرق ولا حزن على فراقه، فإن الله تكفل برده إليها وبجعله من الأنبياء المرسلين إلى أهل مصر.
2 -
قد يقصد الإنسان شيئا ويحدث شيء آخر، فإن أهل فرعون التقطوا موسى الصغير ليكون لهم قرّة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، ولله في خلقه شؤون.
(1)
تفسير الرازي 232/ 24.
3 -
كان إنقاذ موسى من البحر سببا في إسعاد الناس برسالته وإنزال التوراة عليه، وهداية آسية امرأة فرعون إلى الإيمان بالله تعالى، بعد أن أقنعت زوجها فرعون بإبقائه وعدم قتله رجاء أن يكون مصدر نفع لهم أو أن يتبنوه، علما بأنها كانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه، قالوا له: إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء (إبقاء الأولاد) وولد موسى في عام الذبح. يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا، فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} .
4 -
لا يشعر الناس بتدبير الله وتخطيطه، وقد تكرر ذلك المعنى في الآيات فقال تعالى:{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [9] أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه، ثم كرر تعالى ذلك في الآية [11] ثم قال:{وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
5 -
هجمت الوساوس والمخاوف والهواجس على قلب أم موسى، وطار عقلها لوقوع ابنها في يد فرعون عدو الإسرائيليين، وقاربت أن تظهر أمره لولا أن ثبّتها الله وصبّرها وملأ قلبها بالإيمان والاطمئنان والسكينة، لتكون من المصدقين بوعد الله حين قال لها:{إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} .
6 -
كان لأخت موسى الذكية الحصيفة مريم بنت عمران كاسم مريم أم عيسى عليه السلام دور طيب ناجح في إقناع حاشية فرعون وامرأته بمن يقبل ثديها من النساء، لحاجتها إلى عطاء الملك، وطيبها وطيب رائحتها، دون أن يشعروا أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر، حتى رأتهم قد أخذوه، فأرشدتهم بلباقة إلى أهل بيت يكفلونه، وهم للملك ناصحون، يحرصون على مسرّته، ويطمعون في عطائه.
7 -
إن تدبير الله الخفي الذي لا يصلح غيره في أي شيء أشد نفاذا وأنجح خطة من تدبير البشر، فقد منع موسى الطفل من الارتضاع من قبل مجيء أمه وأخته، ثم رده إليها، وفاء بوعده لها، وكان قد عطف الله قلب العدو عليه، ولتعلم أن وعد الله حق، أي لتعلم وقوعه، فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون.
8 -
لم يؤت الله النبوة لأحد غير يحيى وعيسى عليهما السلام قبل بلوغ سن الأربعين الذي تكتمل فيه القوى العقلية والجسمية، وتحقيق هذا في شأن موسى، فإنه لما بلغ أشده، أي غاية نموه، ونضج وبلغ أربعين سنة آتاه الله النبوة والحكمة قبل النبوة والعلم والفقه في الدين، يروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة.
وكما جزى الله موسى على طاعته وصبره على أمر ربه، وجزى أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله، فرد ولدها إليها وهي آمنة، ووهب له العقل والحكمة والنبوة، كذلك يجزي كل محسن.
الخلاصة: أن هذا الفصل من قصة موسى عليه السلام بيان لما أنعم الله عليه في صغره من إنجائه من القتل والغرق في النيل، وما أنعم عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة والنبوة والرسالة إلى بني إسرائيل والمصريين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.} . [طه 37/ 20 - 40].