الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} الرزق الواسع، والمنزل المريح، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل بين أهل الأديان جميعا. {لَمِنَ الصّالِحِينَ} أي في زمرة الكاملين في الصلاح. والصالح لغة: الباقي على ما ينبغي، يقال: طعام صالح، أي باق على حال حسنة.
التفسير والبيان:
بعد أن أقام إبراهيم عليه السلام لقومه الأدلة والبراهين على توحيد الله والرسالة والبعث أو الحشر، وأمرهم بعبادة الله تعالى، وندد بعبادة الأوثان، لم يجدوا جوابا له على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم إلا اللجوء إلى استعمال القوة، كما هو شأن المحجوج المغلوب على أمره المعتمد على جاهه وقوة ملكه، وهذا ما حكاه تعالى عنهم قائلا:
{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا: اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لم يجد قوم إبراهيم جوابا له على مطالبتهم بعبادة الله واتقاء عذابه إلا أن قال كبراؤهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو أحرقوه بالنار تحريقا شديدا، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله وسلمه منها، وجعلها بردا وسلاما عليه، لحفظه له وعصمته إياه. إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالات على وجود الله وقدرته لقوم يصدقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والحجج.
إنه مثل السوء ومدعاة العجب، يدعوهم إبراهيم عليه السلام إلى الخير، ويرشدهم إلى الحق والهدى، فيلقى في النار للتخلص منه، ولكن الله أكبر وأقدر من كيد البشر وقوتهم، فإنه جعل النار المحرقة غير مؤثرة فيه، وإنما صيّرها بردا وسلاما عليه.
وقد وصف الله في آيات أخرى هذا التقابل بين الفعلين، فقال:{قالُوا:}
[الصافات 97/ 37 - 98]، وقال سبحانه:{قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء 68/ 21 - 70].
ثم ذكر الله تعالى جواب إبراهيم لقومه بعد النجاة من النار:
{وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أي قال إبراهيم لقومه مقرعا لهم، وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اتخذتم هذه الأوثان لتجتمعوا على عبادتها، ولتتواددوا بينكم، وتقووا الصداقة والألفة بين بعضكم بعضا في حياتكم الدنيا، كاتفاق أهل المذاهب والأهواء على رابطة بينهم تكون سبب تجمعهم وتآلفهم، ولكن تلك الأوثان لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، وإنما يكون اتخاذكم هذا لتحصيل المودة لكم في الدنيا فقط.
وستكون حالهم من التنافر والتباعد في الآخرة نقيض ذلك، فقال تعالى:
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} أي ثم تنعكس هذه الحال يوم القيامة، فتنقلب هذه الصداقة والمودة بغضا وحقدا وعداوة، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، كما قال تعالى:{كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها} [الأعراف 38/ 7]، وقال سبحانه:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف 67/ 43] ثم يكون مصيركم إلى النار، ولن تجدوا حينئذ ناصرا ينصركم، ولا منقذا ينقذكم من عذاب الله تعالى.
هذا حال الكافرين، أما المؤمنون فبخلاف ذلك، يتصافون ويصفحون، ويعفو بعضهم عن بعض، كما ورد في بعض الأحاديث.
ثم ذكر تعالى أنه لم يؤمن بإبراهيم ولم يصدق بما رأى إلا لوط فقال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي فلما نجا إبراهيم
سليما من النار آمن به لوط، وصدق بنبوته، ولوط: هو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، ولم يؤمن به من قومه سواه وسارّة امرأة إبراهيم الخليل.
وقال إبراهيم: إني مهاجر من دياركم، متجه إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وقد هاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم إلى فلسطين ونزل لوط بلدة سدوم.
وعلة الهجرة هي كما قال:
إن ربي هو العزيز في ملكه الغالب على أمره، الذي يمنعني من أعدائي، وينصرني عليهم، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح.
فقوله: {وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ} يعود الضمير إلى إبراهيم؛ لأنه المكني عنه بقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي من قومه. ويحتمل عود الضمير إلى {لُوطٌ} لأنه أقرب المذكورين.
ثم عدّد تعالى نعمه على إبراهيم في الدنيا والآخرة لإخلاصه لربه، فقال:
1 -
{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} أي ووهبنا إلى إبراهيم بعد إسماعيل في حال الكبر إسحاق، وكذا من نسله يعقوب نافلة حفيدا له، كما قال تعالى:
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا} [مريم 49/ 19]، وقال سبحانه:{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} [الأنبياء 72/ 21].
وفي الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام» .
2 -
{وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} أي وجعلنا في ذرية إبراهيم النبوة، فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، ولم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،