الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسوله صلى الله عليه وسلم بحمد الله تعالى على تلك النعمة، والسلام على الأنبياء كافة، لأدائهم واجب التبليغ لرسالة ربهم على أكمل وجه، ثم رد على عبدة الأوثان ببيان الأدلة المختلفة على وحدانيته وتفرده بالخلق، وقدرته، وإخلاص العبادة له.
التفسير والبيان:
{قُلِ: الْحَمْدُ لِلّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بحمد الله وشكره على نعمه على عباده التي لا تعدّ ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العلا والأسماء الحسنى، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته، وهم رسله وأنبياؤه الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. وأما كون الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلأن القرآن منزل عليه، وكل ما فيه فهو مخاطب به صلى الله عليه وسلم إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
ومن تلك النعم نجاة رسله ونصرتهم وتأييدهم، وإهلاك أعدائه.
ونظير الآية قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الصافات 180/ 37 - 182].
وهذا تعليم لنا بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله، ونسلّم على عباده المصطفين الأخيار.
{آللهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ} أي هل الله الذي يتصف بالعظمة والقدرة التامة خير أم ما يشركون به من الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، وتبكيت لهم، وتهكم بحالهم؛ لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. والمقصود به التنبيه على نهاية ضلالهم وجهلهم، علما بأنه لا خير أصلا فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما كانت الموازنة بحسب اعتقادهم وجود منفعة في آلهتهم المزعومة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» .
ثم انتقل من التوبيخ والتبكيت إجمالا إلى الرد المفصل على عبدة الأوثان ببيان الأدلة على أنه تعالى إله واحد لا شريك له، قادر على كل شيء؛ لأنه الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تصح عبادة ما لا منفعة منه أصلا؟ وتلك الأدلة أنواع:
1 -
ما يتعلق بالسموات: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي أعبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات في ارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من كواكب نيّرة ونجوم زاهرة وأفلاك دائرة، وخلق الأرض الصالحة للحياة الهادئة، وجعل فيها الجبال والسهول، والأنهار والوديان، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، والحيوانات المختلفة الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لأجل عباده من السماء مطرا جعله رزقا لهم، فأنبت به بساتين ذات بهجة ونضارة، وشكل حسن ومنظر بهي، ولولاه ما حصل الإنبات، ولم تكونوا تقدرون على إنبات الأشجار والزروع.
فهو المنفرد بالخلق والرزق، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ كما قال تعالى:{وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ} [المؤمنون 91/ 23].
بل هؤلاء المشركون قوم يميلون عن الحق إلى الباطل، وينحرفون عن جادة الصواب، فيجعلون لله عدلا ونظيرا.
ونظير الآية كثير مثل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل 17/ 16]{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف 87/ 43] ونحو
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ اللهُ} [العنكبوت 63/ 29].
هذا.. وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أم في {أَمَّنْ} وأم في {أَمّا يُشْرِكُونَ} وهو أن {أَمّا} متصلة؛ لأن المعنى أيهما خير، وفي {أَمَّنْ} منقطعة بمعنى «بل» .
2 -
ما يتعلق بالأرض: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أعبادة الأوثان العديمة النفع والضرر خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان وغيره، لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وجعل فيها الأنهار العذبة الطيبة لسقاية الإنسان والحيوان والنبات، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا، أي مانعا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بذاك، لتبقى الغاية من التفرقة بينهما متحققة، فإن الماء العذب الزلال لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار، والماء المالح في البحار ليكون مصدرا للأمطار، وليبقى الهواء فوقه نقيا صافيا لا يفسد بالرائحة الكريهة التي تحدث عادة في تجمعات المياه العذبة.
أيوجد إله مع الله فعل هذا وأبدع هذه الكائنات؟! بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فيتبعونه، ولا يعرفون قدر عظمة الإله المستحق للعبادة.
ونظير الجزء الأول من الآية: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً} [غافر 64/ 40] ونظير آية حاجز البحرين: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان 53/ 25].
3 -
ما يتعلق عموما باحتياج الخلق إلى الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ، قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} أي أتلك الآلهة الجمادات الصماء خير أم من يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه المرض أو الفقر أو المحنة إلى التضرع إلى الله تعالى، ويرفع عنه السوء أو الضرر الذي أصابه من فقر أو مرض أو خوف أو غيره، ويجعلكم ورثة من قبلكم من الأمم في سكنى الأرض والديار والتصرف فيها، فيخلف قرنا لقرن وخلفا لسلف، كما قال:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ} [الأنعام 165/ 6].
أيعقل وجود إله مع الله بعد هذا؟ وهل يقدر أحد على ذلك غير الله المتفرد بهذه الأفعال؟ ولكن ما أقل تذكركم نعم الله عليكم، ومن يرشدكم إلى الحق ويهديكم إلى الصراط المستقيم.
4 -
ما يتصل باحتياج الخلق إلى الله تعالى في وقت خاص: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ، تَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} أي أتلك الآلهة التائهة خير أم من يرشدكم في أثناء الظلمات البرية أو البحرية إذا ضللتم الطريق بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال تعالى:{وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل 16/ 16] وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام 97/ 6].
ومن يرسل الرياح مبشرات أمام نزول الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها، أيكون هناك إله مع الله فعل هذا؟ تنزه الله المتفرد بالألوهية المتصف بصفات الكمال عن شرك المشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر؟!
5 -
ما له صلة بإبداع الخلق والحشر والنشر: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،
وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ، قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي أتلك الآلهة العاجزة خير، أم الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق من غير مثال سبق، ثم يميته، ثم يعيده إلى الحياة الأولى مرة أخرى، كما قال تعالى:{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج 13/ 85] وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم 27/ 30] وهو الذي يرزقكم بما ينزّل من السماء من أمطار، وبما ينبت من بركات الأرض.
أيوجد إله آخر فعل هذا مع الله حتى يتخذ شريكا له؟ قل لهم أيها الرسول: قدّموا برهانكم على صحة ما تدّعون من عبادة آلهة أخرى إن كنتم صادقين في ذلك مع أنفسكم ومع غيركم. والواقع أنه لا حجة لهم ولا برهان يقبله عاقل، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} [المؤمنون 117/ 23].
قال أبو حيان: ناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر العالم العلوي والسفلي وما امتنّ به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، ختمه بقوله:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق، فلا يعبد إلا موجد العالم، ولما ذكر جعل الأرض مستقرا وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على ضرورة تعقل ذلك والتفكر فيه، ختمه بقوله:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ختمه بقوله: {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره، ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم لا تهدي وهم يشركون بها، ختمه بقوله:{تَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} . واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: {أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى
(1)
.
(1)
البحر المحيط: 91/ 7.