الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في القرآن، هو نسخ، ونسخ القرآن بأخبار الآحاد لا يجوز.
والفرق بين المثال الأول وهذا المثال هو: أن الزيادة في المثال الأول صفة في الأصل المزيد عليه، والزيادة هنا متميزة عن الأصل المزيد عليه، لا يقال إن الطهارة متميزة عن الطواف، لأنا نقول: لسنا نعني بالطهارة الوضوء، بل صفة المكلف الحاصلة حين الطواف، بدليل أنه لو أحدث بعد الوضوء لم يطف لأن الطهارة حين الطواف لم تحصل، وإنما يرى أصحابنا أنها ليست بنسخ، لأن العبادة المطلقة المأمور بها من حيث هي لا تنافي شيئا من القيود، فأجزأت ولم يجب قيد معين، فإذا وجب القيد المعين كان زيادة على وجوب الأصل، لا رافعا له، كعبادة زيدت على عبادة، فلا تكون الثانية ناسخة لحكم الأولى.
المسألة الثانية: اختلف إذا نسخ المنطوق
، هل يلزم من ذلك نسخ المفهوم أم
لا؟ والمسألة مسألة نظر وبحث.
أما مفهوم الموافقة فمثاله: احتجاج الحنفية على أن الحر يقتل بالعبد، بقوله صلى الله عليه وسلم: من قتل عبده قتلناه، ومن جرحه
جرحناه"، فإذا وجب ذلك في عبده، فوجوبه في عبد غيره أحرى، وأولى.
فيقول أصحابنا: هذا الخبر منسوخ عندنا، لأنكم لا تقولون بأن الحر يقتل بعبده.
والجواب عندهم: أنهم يستدلون بفحوى هذا الخطاب، وإن كان أصله منسوخا، إذ لا يلزم نسخ الفحوي من نسخ أصلها.
وأما مفهوم المخالفة فمثاله: احتجاج أصحابنا على أن الوصية للأجانب غير فرض، بقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم
الموت إن ترك خيرًا بالوصية للوالدين والأقربين}، فمفهومه: أنها لغير الوالدين والأقربين غير فرض.
ويقول أهل الظاهر هذه الاية منسوخة، بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وصية لوارث.
والجواب عند أصحابنا: أن الاية لها جهتان في الدلالة، جهة منطوق وجهة مفهوم، فلا يلزم من نسخ مقتضى إحدى الجهتين نسخ مقتضى الأخرى.
المسألة الثالثة:
اعلم أن الأصل النقلي يعلم كونه منسوخا بوجوه منها: متفق عليه، ومنها: مختلف فيه.
فمن ذلك أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كونه منسوخا بالصريح، كقوله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكنت نهيتكم عن زيادة القبور فزورها، فهذه الأخبار علم منها الحكم المنسوخ.
ومما احتج به بعض أصحابنا على طهارة جلد الميتة بعد الدباغ، قوله صلى الله عليه وسلم: إيما إهاب دبغ فقط طهر.
فتقول الحنابلة: هذا منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا إتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.
والجواب عند أصحابنا: أن الحديث إنما أشار به إلى ما رخص فيه
حين مر بشاة ميتة، فقال: هلا انتفعتم بجلدها. قيل: يا رسول الله إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها، فلما أباح صلى الله عليه وسلم الانتفاع بجلدها إباحة مطلقة من دون تقييد بدباغ أشار في الخبر إلى تحريمه، لا إلى تحريم الانتفاع بالجلد بعد الدباغ، والذي يدل على ذلك: ان الإهاب اسم للجلد الذي لم يدبغ، فقوله صلى الله عليه وسلم لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، إنما أشعر بتحريم الانتفاع بالجلد قبل الدباغ، فأما بعده فلا.
ومن ذلك: أن ينعقد الإجماع على خلاف الحكم، وإن لم يعلم الناسخ فالإجماع عندنا ليس بناسخ، ولكنه متضمن للناسخ، ومثاله ما
روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل شارب الخمر، في المرة الرابعة، ثم انعقد الإجماع، بعد ذلك على أنه يحد ولا يقتل، فعلمنا أن الخبر الأول منسوخ.
ومن هذا المعنى عندنا عمل أهل المدينة، ولذلك قدمه مالك
رحمه الله على الخبر.
ومن ذلك أن يصرح الراوي بأن الحكم منسوخ، كما إذا احتج بعض أصحابنا على ان الحامل والمرضع تفطران وتطعمان، بقوله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} .
فيقول المخالف: هذا منسوخ بما روى أن سلمة بن الأكوع، قال: إن الناس كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين الصوم والفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فلو لميكن ما قال الراوي في بيان تقدمه: كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ فإن قال: هذا منسوخ بهذا، فإن كثيرًا من الأصوليون لا يجعل قول الراوي دليلا، لأنه يتحمل أن يكون عن اجتهاد لا عن نقل.
ومن ذلك: أن يستند الراوي في بيان تقدمه على ما يخالفه إلى أمر إجمالي، كما إذا احتج أصحابنا على أن الإمام مخير بين المن والفداء، بقوله تعالى:{فإما منا بعد وإما فداء} .
فيقول أصحاب أبي حنيفة: هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فإن الاية الاولى في سورة القتال، والاية الثانية في سورة براءة، ومن المعلوم أن براءة متأخرة عن القتال، في النزول.
ومن ذلك إذا علم تاريخ الحكم، وعلى تأخر، إسلام راوي الخبر المعارض له عن ذلك التاريخ، كما إذا احتج أصحاب أبي
حنيفة على أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، بقول طلق بن علي:«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد المدينة، فسألة رجل عن مس الذكر: أينقض الوضوء؟ فقال: هل هو إلا بضعة منك» .
فيقول أصحابنا: هذا منسوخ بخبر أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم:«من مس ذكره فليتوضأ» ، ومن المعلوم أن إسلام أبي هريرة بعد بناء المسجد بسنين، فقد قال أبو هريرة:«قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وعلى المدينة سباع بن عرفطة» .
فإن لم يتعين تاريخ الخبر المنسوخ لم يلزم نسخه بتأخر إسلام راوي الخبر المعارض له، ولا بقرب أحد الخبرين في التاريخ من موته صلى الله عليه وسلم، كما روي:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة ببول أو بغائط» .
فيقول المخالف: هذا منسوخ بحديث جابر، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بعام يبول وهو مستقبل القبلة» ، وإنما لم يتعين بهذا كون الخبر الأول منسوخاً، لاحتمال أن يكون متأخرًا عن حديث جابر.
ومن ذلك ان يرتفع سبب مشروعية الحكم ويستقر خلافه، فإن ذلك لا يدل على أن الحكم الأول منسوخ، كما إذا استدل أصحابنا على غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، بحديث أبي هريرة.
فتقول الحنفية: إنما كان ذلك لشدة ألفهم للكلاب، وعسر مفارقتها
عليهم، فشدد عليهم في ذلك لكي يتجشموا مفارقتها، وتنقطع العلاقة العادية بينهم وبينها، فلما زالت تلك الحقائق زال الحكم المشروع.
وكذلك احتجاج أصحابنا على أن تخليل الخمر محظور، بحديث أنس قال:«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ فقال: لا» .
فتقول الحنفية: إنما كان ذلك في ابتداء الأمر، لأجل شدة شغفهم
بها، فحرم اقتناؤها للتخليل حسما للباب، فلما زالت تلك المهلكات زال تحريم الاقتناء للتخليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان، وتخريق الظروف حينئذ، ولا يجب اليوم بالإجماع.
والجواب عند أصحابنا: أن الحكم إذا شرع لسبب فلا يلزم رفعه لارتفاع ذلك السبب، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرمل في الطواف، إظهارا لجلد الإسلام حين قالت كفار قريش في عمرة القضاء: إن أصحاب محمد قد وهنتهم حمي يثرب، وقد زال هذا السبب، ثم لم يزل الحكم، فقد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ورمل
أصحابه ولم يكن بمكة إذ ذاك مشرك.
وهذه المسألة: أعني مسألة تخليل الخمر، مما يتعلق بالنظر في جواز النسخ بالقياس، وفي ذلك خلف
ومثال ذلك: احتجاج أصحابنا على أن أسار السباع طاهرة، بما رواه جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضيت السباع كلها.
فيقول أصحاب أبي حنيفة: إنما كان ذلك حين كانت السباع
حلالا فلما نسخت إباحة السباع نسخت طهارة أسآرها، فكأنهم قاسوا نسخ أحد الحكمين على نسخ الآخر، بناء على اتحادهما في العلة، فلما زال أحد الحكمين زال اعتبار علته، ولزم من ذلك زوا الحكم الآخر.
ونحن نقول: لا يلزم من نسخ أحد الحكمين نسخ الآخر، لأن الوصف الواحد يجوز أن يكون علة لحكمين من جهتين، فلا يلزم من رفع اعتباره من إحدى الجهتين رفع اعتباره من الجهة الأخرى، فيتعلق بما نحن فيه، إذا كان الدليل أو الخبر يتضمن حكمين، فهل يلزم من نسخ أحد الحكمين نسخ الآخر أو لا
والتحقيق فيه: أنه إن كان أحد الحكمين لا ارتباط بينه وبين الآخر إلا من حيث اشتمل عليها نص واحد من كتاب أو سنة، فإنه لا يلزم من رفع أحدهما رفع الآخر.
ومثاله: احتجاج أصحابنا على أن بيع الكلب حرام، بقوله صلى الله عليه وسلم:
كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث.
فيقول المخالف: قد نسخ خبث كسب الحجام بحديث أبي طيبة: أنه حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه أجرته، فإذا نسخ خبث كسب الحجام نسخ خبث ثمن الكلب، فهذا وأمثاله ضعيف.
وأما إن كان بين الحكمين ارتباط وتلازم، فإنه يلزم من رفع احد الحكمين رفع الآخر، ومثاله: ما إذا ادعينا حد شارب النبيذ بالقياس على الخمر أو غيره.
فتقول الحنفية: قد نسخ الحد عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، فلما نسخ التحريم فيه لزوم وجوب الحد على شاربه.
كذلك كل ما في معنى هذا المثال، كما إذا ادعينا جرحة الشاهد بفعل من الأفعال، فيقول: قد نسخ ذلك الفعل، فيلزم نسخ التجريح به.
وقد يكون الاستلزام خفيا أو مظنونًا، فيقع الخلاف، كما إذا احتج الشافعي رحمه الله تعالى على تحريم ثمن الكلب بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب وما وجب قتله فلا قيمة على متلفه، ومالا قيمة على متلفه فلا ثمن له.
فتقول الحنفية: قد نسخ حكم قتل الكلاب، فوجب بذلك القيمة على متلفه، وما لا قيمة على متلفه فلا ثمن له.
فتقول الحنفية: قد نسخ حكم قتل الكلاب، فوجب بذلك القيمة على متلفه، فإذا وجبت القيمة حل الثمن.
فهذا استلزم خفي، يقبل المنع، مع أنه لا يلزم من وجوب القيمة على القاتل جواز البيع.