الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في النص
وهو لا يقبل الاعتراض إلا من غير جهة دلالته على ما هو نص فيه:
ومثاله: احتجاج أصحابنا على أن غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع لا ثلاث بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا.
والحنفية يوجبون الغسل ثلاثا، لكنهم لا ينازعون في دلالة لفظ السبع، على العدد المعلوم، بل يقولون: كان أبو هريرة يفتي بغسل
الإناء ثلاثًا، وهو راوي الحديث، فدل على أن الحديث غير معمول به.
وقد يعتقد معتقد في العدد أنه نص في القصر عليه، وهو في الحقيقة ليس بنص في ذلك، بل هو نص في الانتهاء إليه، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، فإن ذلك لا يدل نصًا على
منع الزيادة على الخمس، بل ولا بمنطوقه، وإنما يدل بمفهومه، وللعدد مفهوم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد فرق بعض الأصوليين بين ذكر العدد في نفس الحكم، كقوله: فليغسله سبعًا، وبين ذكره في متعلق الحكم، كقوله: خمس فواسق، وجعل المنع من الزيادة على ثلاثة أيام في الخيار نصا من قوله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثة أيام، فإن هذا الحديث في الحكم، لا في محل الحكم، فلا تصح الزيادة في الخيار على ثلاثة أيام.
وهذا الذي ذكروه لا ننازعهم فيه، بل نقول: الخيار الذي يكون للغبن يتحدد بالثلاثة، وهو الذي ورد في هذا الحديث، وأما الخيار الذي يعرض في البيع لاختبار المبيع، فلا تحديد عندنا فيه، ويختلف باختلاف السلع.
ومما يدل أيضاً نصاً على الحكم ما احتج به أصحابنا، على أن الإمام مخير في الأسرى بين المن والفداء بقوله تعالى:{فإما منا بعد وإما فداء} وهذا نص في التخيير.
فيقول أصحاب أبي حنيفة: هذا وإن كان نصا في التخيير إلا أنه مغي بغاية مجهولة، وهو قوله تعالى:{حتى تضع الحرب أوزارها} ووضع الحرب أوزارها مجهول، فإنه يحتمل أن يكون المراد منه: حتى لا يبقى شرك، أي إلى يوم القيامة، ويحتمل أن يريد: حتى يفترق القتال، ويحتمل غير ذلك.
وبالجملة: فيحتمل أن الغاية قد وجدت فيرتفع التخيير، ويحتمل أنها لم توجد بعد، فيبقى حكمه مستمرًا، وإذا كان كذلك فالآية مجملة.
والجواب عند أصحابنا: أن أئمة التفسير قد رووا عن ابن عباس: حتى ينزل عيسى بن مريم، وحتى لا يبقى على الأرض مشرك.
واعلم أنه قد يتعين المعنى ويكون اللفظ نصا فيه بالقرائن والسياق لا من جهة الوضع.
ومثاله: ما احتج به أصحابنا على أن بيع الرطب بالتمر، لا يجوز، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، قال: فلا إذن.
فيقول أصحاب أبي حنيفة: قوله: {فلا إذن} لا يتم إلا بحذف، فقد يكون معناه، فلا يجوز إذن، وقد يكون معناه: فلا بأس إذن، ومع هذا الاحتمال فلا استدلال.
والجواب عند أصحابنا: إن جوابه صلى الله عليه وسلم إنما يطابق سؤال السائل إذا كان المعنى: فلا يجوز لأنه إنما سئل عن الجواز، وأيضا: فقرينة التعليل بالنقص تدل على المنع، إذ النقص لا يكون مناسبًا للجواز، فهذا يوجب القطع بأن المراد أنه لا يجوز.
واعلم أنه قد يحلق بالنص ما يتطرق إليه احتمال غريب نادر، لا يكاد يقبله العقل. ومثاله: ما احتج به أصحاب الشافعي على أن قراءة
الفاتحة واجبة على المأموم، هو قوله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن.
فيقول مخالفوهم: يحتمل أن يكون المراد بإلا معنى الواو، فكأنه قال: ولا تقرءوا ولا بأم القرآن، فإن {إلا} قد وردت بمعنى الواو، كما في قوله تعالى:{إلا الذين ظلموا منهم} وكقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي ولا الذين ظلموا منهم، ولا الفرقدان، وإذا كان كذلك، كان الحديث محتملاً.
والجواب عندهم: أن هذا التأويل البعيد الذي يصير الحديث كاللغز ينفيه قوله بعد ذلك: فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن.
خاتمة: وقد يكون المعترض هو الذي يدعى النصوصية في القول، ويريد بذلك أن يمنع تقييده، كما إذا أراد أصحابنا تعيين فاتحة الكتاب في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
فيقول أصحاب أبي حنيفة: قد قال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} ، فالآية نص في إجزاء ما تيسر منه، والحديث قد تضمن زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بأخبار الآحاد لا يجوز.
والجواب عند أصحابنا: أن المطلق ظاهر في معناه لا نص، وإذا كان ظاهرًا جاز تأويله بخبر الواحد.
فهذا تمام الكلام في النص.