الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَغْفِرُونَ} (1)، فترتّب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (2)، كما قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (3).
الصورة الثانية عشرة: مع عيينة
ومما يُبيّن حلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (4)، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله (5).
(1) سورة الشورى، الآية:37.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 621.
(3)
سورة فصلت، الآية:34.
(4)
سورة الأعراف، الآية:199.
(5)
البخاري، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، برقم 4642.
وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.
أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.
والثاني: قوله: والله ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.
والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.
ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح بعدما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية: ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، رضي الله عنه وأرضاه (1)، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخُلُقه.
وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (2).
ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن قال أوصني:((لا تغضب)) (3).
والداعية إلى الله يستطيع أن يتّصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250.
(2)
البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6141، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم 2609.
(3)
البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6116، والحديث فيه: فردد مراراً، قال:((لا تغضب)).