الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة: ملخص البحث وأهم النتائج
الحمد لله الذي منّ على عبده الضعيف إليه وحده بمعالجة هذا الموضوع على قدر الفهم والاستطاعة.
لاشك أني قد حاولت في العمل في هذا البحث التسديد والمقاربة، وبذلت ما استطعت من جهد في إعداده، ولا أدّعي الكمال؛ فإن الكمال المطلق من جميع الوجوه لله وحده، وما منا إلا يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا محمد عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وأسأل الله أن يجعله مباركاً نافعاً لكاتبه، ومن انتهى إليه إلى يوم الدين.
أما أهم النتائج التي أعانني الله عليها، ويسّر سبحانه التوصّل إليها في هذا البحث فهي على النحو الآتي:
1 -
إن مقومات الداعية الناجح هي المعدِّلات التي تعدِّل الداعية وتقوِّم اعوجاجه فتجعله مستقيماً معتدلاً، حكيماً منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته موفّقاً مُسدَّداً بإذن الله تعالى.
2 -
إن مقومات الداعية الناجح كثيرة متعددة، ولكني اقتصرت على أصولها وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقومات، التي لابد لكل داعية من معرفتها والعمل بها وتطبيقها في حياته. وهي في نظري عشرة أصول: العلم النافع، والحكمة، والحلم، والأناة، والرفق، والصبر، والصدق، والإخلاص، والقدوة الحسنة، والخلق الحسن.
ولا ريب أن معرفة الداعية للمقومات التي تجعله ناجحاً في دعوته من أهم المهمات، ومن أولى الواجبات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى
ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقومات.
3 -
إن العلم النافع من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل فقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (1)؛ ولهذا بوّب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً قال فيه: بابٌ: العلم قبل القول والعمل.
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) (2).
والعلم النافع أقسام ثلاثة: علم بالله وأوصافه وما يتبع ذلك، وعلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون في المستقبل، وعلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح.
والعلم لابد فيه من إقرار القلب ومعرفته بما طُلِبَ منه عمله وتمامه العمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل فهو حجة على صاحبه يوم القيامة. وقد أحسن القائل حيث قال:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً حجة
…
عليك ولم تُعْذَرْ بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً
…
فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعله
والعلم له طرق يكتسب بها، ومن أعظمها: أن يسأل العبد ربه العلم النافع، وأن يجتهد في طلبه، وأن يبتعد عن جميع المعاصي؛ لأنها سبب في حرمان العلم، وأن لا يستحيي من طلب العلم، ولا يتكبر عن طلبه،
(1) سورة محمد، الآية:19.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 98 (1037).
وأن يخلص في الطلب.
4 -
إن الحكمة هي الركن الأعظم من مقومات الداعية الناجح، وهي بلا شك الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان.
والحكمة تكون تارة باستخدام الرفق واللين، وتارة باستخدام الموعظة الحسنة، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، وتارة تكون باستخدام القوة لمن كان له سلطة مشروعة بالضوابط التي دلّ عليها الكتاب والسنة.
والحكمة حكمتان: حكمة علمية وحكمة عملية وهي درجات بيّنها أهل العلم، والحكمة لها طرق تكتسب بها وتُحصّل بها، فإذا سلك الداعية هذه الطرق وُفِّق لاكتساب الحكمة بإذن الله تعالى، ومن أبرز وأهم هذه الطرق الطرق الآتية:
الطريق الأول: السلوك الحكيم الذي يسلكه الداعية في حياته وتصرفاته، وسيرته.
الطريق الثاني: العلم بالعمل المقرون بالصدق والإخلاص.
وما أحسن وأجمل ما قاله الشاعر الحكيم:
وكيف يصح أن تُدْعى حكيماً
…
وأنت لكل ما تهوى ركوب
الطريق الثالث: الخبرات والتجارب؛ لأن التجارب لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات.
الطريق الرابع: السياسة الحكيمة ومن أعظمها: تحرّي أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين، حتى لا يملّوا عن الاستماع، وترك
الأمر الذي لا إثم في تركه ولا ضرر اتقاءً للفتنة، وهذا يبيّن للداعية أن المصالح إذا تعارضت أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم، فإنّ دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ودفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
الطريق الخامس: فقه ركائز الدعوة وأركانها؛ فإن الداعية لا يكون حكيماً حتى يعرف موضوع الدعوة الذي يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوافر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟
والداعية الحكيم هو الذي ينزل الناس منازلهم، ومراتبهم، فيدرس الواقع لأحوال الناس ومعتقداتهم، ونفسياتهم، ويعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ثم يدعوهم على حسب أحوالهم وما يحتاجون إليه، فالداعية الحكيم كالطبيب الذي يُشخِّص المرض، ويعرف الداء ويحدّده، ثم يعطي العلاج والدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض، وضعفه وتحمّله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشقّ بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه؛ من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدّد المرض تحديداً دقيقاً، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم العلاج المناسب بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة مع تشويق المدعوّ إلى القبول والإجابة.
5 -
إن الحلم هو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو من
أعظم مقومات الداعية الناجح، وما أكثر الصور التطبيقية التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم في مجال الحلم في الدعوة إلى الله تعالى فدخل الناس في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بتطبيق هذا المقوم العظيم.
والحلم له طرق يكتسب بها إذا سلكها الداعية كان حليماً وموفقاً.
6 -
إن الأناة من أعظم مقومات الداعية الناجح، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدلّ على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية التي تضبط نفسه؛ فإن الأناة عند الداعية تجعله يحكِّم أموره ويضع الأشياء مواضعها، والتثبت في الأمور الواقعة وفي الأخبار الواردة حتى تتضح وتظهر، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أوْ لها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) وكم من الصور التطبيقية للأناة في الدعوة إلى الله تعالى التي طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقها مِنْ بعدِهِ أهل العلم والإيمان فنفع الله بها؟
7 -
إن الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأيسر والأسهل، وحسن الخلق وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم:((يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا)) (3).
(1) سورة الحجرات، الآية:6.
(2)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 78 (2594).
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 69، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 8 - (1734).
8 -
إن الصبر هو منع النفس وحبسها عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن التشويش، وهو يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وهذه القوة تمكِّن الداعية من ضبط نفسه لتحمّل المشاق والمتاعب والآلام ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، ويحتاجه الداعية قبل الدعوة، وأثناء الدعوة، وبعد الدعوة كما بيّن ذلك أهل العلم والإيمان.
والصبر في الدعوة بمثابة الرأس من الجسد، فلا دعوة لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له.
والصبر ينتصر به الداعية على عدوه مع الأخذ بالأسباب المشروعة {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1).
فلابد للداعية أن يصبر على دعوته وما يدعو إليه، وعلى ما يتعرّض دعوته من معارضات، وعلى ما يصيبه هو من أذى، فإذا فعل ذلك كان إماماً يُقتدى به:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2).
9 -
إن الصدق والإخلاص في الدعوة إلى الله: هو التقرّب بهذا العلم إلى الله وحده: لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه، ويقصد بدعوته وسائر
(1) سورة آل عمران، الآية:120.
(2)
سورة السجدة، الآية:24.
تصرفاته وتوجيهاته وجه الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه. ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ
…
} (1).
والصدق يكون في القصد والنية وهو الإخلاص، وفي القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل، وفي العمل بموافقة القول، وهذه المجالات تحت قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
10 -
إن القدوة الحسنة هي أن يكون الداعية قدوة صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قوله فعله ولا فعله قوله، وهي من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة دون أن يعلم أنه تحت رقابة مجهرية، فرب عمل يقوم به الداعية من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر والموبقات؛ لأنهم يعدّونه قُدوة، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع فيظن أنه على حق، ومعلوم أن الداعية إذا كان عاملاً بما يدعو إليه كان ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به؛ لأن كثيراً من الناس ينتفعون بالسيرة الحسنة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما عامة الناس؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا
…
} (3) وقد ذم سبحانه من خالف قوله فعله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا
(1) سورة النساء، الآية:125.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.
(3)
سورة فصلت، الآية:33.
تَفْعَلُونَ} (1)،، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2)، وما أحسن ما قاله القائل:
يا أيها الرجل المعلِّم غيره
…
هلَاّ لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقولُ ويُقتدى
…
بالعلم منك وينفع التعليمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله
…
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم
11 -
إن الخلق الحسن حالة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الحسنة الجميلة وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، وإذا تخلَّق به الداعية أحبه الناس جميعاً حتى أعدائه في الغالب، فيتمكن بذلك من إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الداعية لا يسع الناس بماله ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق.
ومن التجارب الملموسة والمشاهدة أن من لم يتخلق بالخلق الحسن من الدعاة ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يسيء إليهم، ويبدو منه احتقارهم ولو كان ما يقوله حقاً؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ
…
} (3).
والخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود،
(1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
(2)
سورة البقرة، الآية:44.
(3)
سورة آل عمران، الآية:159.
والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر والإحسان، والوفاء، والإيثار، والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل، وهذا مفهوم واسع إذا عمل به الداعية كان ناجحاً في دعوته بعون الله.
والله أسأل أن يوفق جميع علماء المسلمين ودعاتهم إلى العمل بهذه المقومات، وأن يزيدني وإياهم علماً، وهدىً، وتوفيقاً، وأن يحسن لي ولهم ولجميع المسلمين العاقبة في الأمور كلها، وأن يجيرنا جميعاً من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.