الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: العمل بالعلم
والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (1).
وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله عز وجل لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (2).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل الله من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد
(1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
(2)
سورة البقرة، الآية:159.
أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجُوزيَ من جنس عمله (1).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار)) (2).
فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان (3) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله)) (4).
وقال رحمه الله: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (5).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((تعلّموا، تعلّموا،
(1) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي،1/ 186،وتفسير البغوي،1/ 134،وابن كثير، 1/ 200.
(2)
الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم 2649، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم، برقم 3658، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم 266، وأحمد، 2/ 263، 305، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 49، وصحيح الترمذي، 2/ 336.
(3)
سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 454 - 474.
(4)
أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب فضل العلم والعالم، 1/ 81.
(5)
المصدر السابق، 1/ 81.
فإذا علمتم فاعملوا)) (1).
وقال رضي الله عنه: ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه)) (2).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل)) (3).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً)) (4).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
…
عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه
فإن كنت قد أُوتيت علماً فإنما
…
يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه (5)
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل.
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 195.
(2)
المرجع السابق، 2/ 6.
(3)
جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7.
(4)
المرجع السابق، 2/ 7.
(5)
جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7.
وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقروناً بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها)) (1).
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم:((اللهم علمه الحكمة))، وفي لفظ:((اللهم علمه الكتاب))، وفي لفظ:((اللهم فقهه في الدين)) (2).
فكان رضي الله عنهما حَبْراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم 1343، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم 816.
(2)
البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 3546، 6842، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 2477.