الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُبيِّن أن جزاءهم يكون بأحسن ما كانوا يعملون: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ} (1).
ويصرّح أن أجر الصابرين غير معدود، ورزقهم غير محدود:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2).
ثالثاً: معرفة الإنسان نفسه:
الله سبحانه وتعالى هو الذي منح الإنسان الحياة؛ فخلقه من عدم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخراً، لذلك فإذا نزل بالعبد نازل سلبه شيئاً مما عنده، فإنما استردّ صاحب الملك بعض ما وهب، ولا ينبغي للمودَع أن يسخط على صاحب العارية إذا استردَّها.
وصدق لبيد بن ربيعة رضي الله عنه القائل:
وما المالُ والأَهلون إلا ودائعٌ
…
ولابدّ يوماً أن تُردَّ الودائع
وفي قصة أم سُلَيم مع زوجها أبي طلحة دليل واضح على فهم السلف الصالح - رضوان الله عليهم - لهذه الحقيقة حيث عرفوا أنفسهم فعرفوا مقام ربهم وقدَّروه حقَّ قدره.
عن أنس رضي الله عنه قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سُلَيم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه.
(1) سورة النحل، الآية:96.
(2)
سورة الزمر، الآية:10.
قال: فجاء فَقَرَّبَتْ إليه عشاءً فأكل وشرب، قال: ثم تَصَنَّعتْ له أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها.
قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟
قال: لا.
قالت: فاحتسب ابنك.
قال: فغضب، وقال: تركتِني حتى تلطَّختُ ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما)).
قال: فحملت، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طُرُوقاً فدنوا من المدينة فضربها المخاض فاحتبس عليها أبو طلحة وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل وقد احتبست بما ترى.
قال: تقول أم سُلَيم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد انطلق، فانطلقنا.
قال: فضربها المخاض حين قدما فولدت غلاماً.
فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصادفته
ومعه ميسم فلما رآني قال: ((لعل أم سُلَيم ولدت)).
قلت: نعم، فوضع الميسم. وقال: وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فَلاكَها في فيه حتى ذابت ثم قَذَفَها في الصبي يتلمظها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى حُبِّ الأنصار التَّمْر)).
قال: فمسح وجهه وسمّاه ((عبد الله)).
[قال سفيان: قال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن](1).
وهذه المعاني قبس من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (2).
هذه الكلمة الطيبة تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلّى عن مصيبته:
1 -
أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة.
2 -
أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ليوفيه حسابه.
فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم معين على التحلِّي بالصبر عند الشدائد والمصائب والمحن والفتن، فاللهم ثبتنا بالقول
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، برقم 1301، 3/ 169، و9/ 587، ومسلم مع النووي، 16/ 11، برقم 2144، وما بين المعقوفين للبخاري الموضع الأول.
(2)
سورة البقرة، الآيتان: 155 - 156.