الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أهمية الأناة والتثبت
والأناة عند الداعية إلى الله - تعالى - تسمح له بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (1).
والداعية مطلوب منه أن يتخلّق بخُلُق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خُلُقٌ مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن الله تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة.
(1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم للشرباصي، 3/ 15.
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم بالأعمال وتصريف الأمور (1).
قال الله - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم تربية له وتعليماً: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (2).
فأمر الله سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبيِّنه له ويفسِّره (3).
وقال تعالى: {فَتَعَالَى الله المَلِكُ الحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (4).
وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (5)، قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي:(فتَثبَّتوا)،
(1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 353 - 354، بتصرف.
(2)
سورة القيامة، الآيات: 16 - 19.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 450.
(4)
سورة طه، الآية:114.
(5)
سورة الحجرات، الآية:6.
والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (1).
والدعاة إلى الله أولى بامتثال أمر الله - تعالى - وبالتأنِّي والتثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (2).
والداعية إلى الله - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق.
والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف
(1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني، 4/ 60.
(2)
انظر: في ظلال القرآن، 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 3/ 15.
مصدره، فيستعجل ويسارع فيتّهم هذا، أو يسبّ ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنَّى، وتبيَّن، وتثبَّت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعداءه عدواً جديداً منهم.
ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (1)، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (2).
ولعظم أمر الأناة والتبين التي أمر الله بها حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (3).
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبيت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين
(1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، 3/ 26، وفي ظلال القرآن، 6/ 3342.
(2)
سورة الإسراء، الآية:11.
(3)
سورة النساء، الآية:94.
عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين؛ فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكفّ عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعرفُ دين العبد وعقله ورزانته (1).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله:{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (2).
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 132.
(2)
البخاري، كتاب التفسير، سورة النساء، باب:{وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ، برقم4591.