الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أستاذاً في الحكمة، وذلك؛ لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف.
وفي سيل الدماء من قدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي الكريم - أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد.
وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة ملك الجبال في إطباق الأخْشَبيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من ردّ دعوته، وعدم اليأس من هدايتهم، فربما يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار المُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب (1).
الصورة العاشرة: مع أهل الأسواق والمواسم:
باشر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز، وغيرها، التي تحضرها القبائل
العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر، ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله - تعالى -، وجاء موسم الحج لهذه السنة
(1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص58، وهذا الحبيب يا محبّ، ص134.
فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضاً.
وكان صلى الله عليه وسلم يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليّاً، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عمه أبو لهب (1).
وقد كانت الأوس والخزرج يحجّون كما تحجّ العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله صلى الله عليه وسلم ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، ورجعوا
إلى المدينة (2).
وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه أحمد، 4/ 341، 3/ 492، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان، برقم 1683 (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم في المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول: صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات، 1/ 15.
(2)
انظر: زاد المعاد، 3/ 43، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 136، والرحيق المختوم،
ص129، والبداية والنهاية، 3/ 149، وابن هشام، 2/ 31.
نفسه على القبائل، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج في السنة الثانية عشرة من النبوة، وكان من بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء (2).
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍِ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن
أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) فبايعناه على ذلك (3).
(1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 137، وهذا الحبيب يا محبّ، 2/ 145، والرحيق المختوم، ص132، وزاد المعاد، 3/ 45، وسيرة ابن هشام، 2/ 38، والبداية والنهاية، 3/ 149.
(2)
انظر: زاد المعاد، 3/ 46، والرحيق المختوم، ص139، والتاريخ الإسلامي، 2/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ، ص145، وسيرة ابن هشام، 2/ 38.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، 7/ 219، برقم 3892، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 64، برقم 18.
وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلّم المسلمين شرائع الإسلام؛ وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك رضي الله عنه أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكلهم قد أسلموا.
فلما قدموا مكة واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ فقال:((تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) (1)، فقاموا إليه فبايعوه.
وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر زعيماً، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم
في الدعوة إلى الله تعالى (2).
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس وطن
(1) أحمد في المسند، 3/ 322، والبيهقي، 9/ 9، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 624، وحسن إسناده للحافظ في الفتح، 7/ 117.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 49، والبداية والنهاية، 3/ 158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 142، والرحيق المختوم، ص143.
للإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيراً، وثبت لقريش أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في السادس والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر علياً أن يبيت في فراشه تلك الليلة، فبقي المشركون ينظرون إلى علي من صِير الباب (1)، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرّ بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة (2).
وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم،وعلى صبره، وشجاعته، وأنه صلى الله عليه وسلم حينما علم بأن قريشاً قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ فيه قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر
جبناً، ولا فراراً من الموت؛ ولكن يعتبر أخذاً بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم وإمامهم (3).
(1) صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة ((صار)) 1/ 531.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 95، والبداية والنهاية، 3/ 175، وزاد المعاد، 3/ 54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/ 148، وهذا الحبيب يا محبّ، ص156.
(3)
انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، ص68.