الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة
من الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاةالحق يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (1)، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2).
هذه الآية العظيمة تُبيِّن لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً؛ ولهذا قال بعده:{وَعَمِلَ صَالِحًا} ، فالداعي إلى الله عز وجل يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجِّهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم (3).
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون
(1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
(2)
سورة فصلت، الآية:33.
(3)
فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 350.
بالأقوال، ولا سيما العامّة وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهمّ المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل حتى يُقتدى بفعاله وأقواله (1).
ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ
صَالِحًا}، الآية. وهذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله عز وجل هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثّر الناس بدعوتهم، وينتفعون بها ويحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، فإنهم لا حظّ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، إنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من الله - سبحانه - والسب من الناس، والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم.
قال الله عز وجل موبِّخاً اليهود: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2)، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لِمَا يقول أمر يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل (3).
وصحّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار،
(1) مجموع فتاوى ابن باز، 3/ 110.
(2)
سورة البقرة، الآية:44.
(3)
انظر: فتاوى ابن باز، 2/ 343.
فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (1).
هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك، فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته (2).
فأنت يا عبد الله في أشدّ الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى من الامتحان، ولو أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة (3).
والمؤمن الداعي إلى الله قويّ الإيمان، البصير بأمر الله يصرِّح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرّح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط
(1) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3267، ومسلم كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم 2989.
(2)
انظر: فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 351.
(3)
انظر: المرجع السابق، 2/ 290.
بذلك ويفرح به كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1)، فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع (2).
وينبغي للدعاة إلى الله تعالى: أن يُعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وعملاً بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسِّرة لكتاب الله، كما قال الله عز وجل:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3)، وقال عز وجل:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4).
والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني الداعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله وإنكاره المنكر وطريقة أصحابه رضي الله عنهم (5).
فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله عز وجل حتى يستقيموا عليه، وحتى يكون لهم خلقاً ومنهجاً يسيرون
عليه أينما كانوا، يقول عز وجل:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6)، فهو
(1) سورة يونس، الآية:58.
(2)
انظر: فتاوى ابن باز، 1/ 338.
(3)
سورة النحل، الآية:44.
(4)
سورة النحل، الآية:64.
(5)
انظر: فتاوى ابن باز، 4/ 171، 232.
(6)
سورة الإسراء، الآية:9.
الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها.
فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يُعنوا بهذا الخُلُق، وأن يُقبلوا على كتاب الله قراءةً، وتدبُّراً، وتعقّلاً، وعملاً، يقول سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (1).
أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله عز وجل والعناية به: تلاوةً، وتدبراً، وتعقلاً، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالاً لأهل العلم عمَّا أشكل عليه من الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً (2).
(1) سورة ص، الآية:29.
(2)
انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 4/ 79، 80.