الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب.
وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص لله، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره (1).
وقال ابن تيمية رحمه الله: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله - سبحانه - بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار (2) أحدكم الفسيل في بستانه)) (3).
أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر:
وكيف يصح أن تُدعى حكيماً
…
وأنت لكل ما تهوى ركوب (4)
المطلب الثالث: الاستقامة
الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
(1) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66، 67 بتصرف.
(2)
الأكار: الزارع. انظر: لسان العرب، حرف الراء، فصل الهمزة، مادة: أكر.
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، 8/ 518.
(4)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23.
رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (1). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2)، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3).
وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال:((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) (4).
والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى الله: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ الله برحمةٍ منه وفضلٍ)) (5).
فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم
لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه،
(1) سورة فصلت، الآية:30.
(2)
سورة الأحقاف، الآيتان: 13 - 14.
(3)
سورة هود، الآية:113.
(4)
مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، برقم 38.
(5)
مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله، برقم 2816.
ومع هذا أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات.
والداعية إلى الله يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن الله تعالى - لا يُخيِّب الله سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان (1).
وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند الله عز وجل، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2).
إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل لله وحده، والاعتزاز بالإسلام.
وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً:
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/ 357.
(2)
سورة فصلت، الآية:33.