الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبوك اسم مشهور في القديم والحديث، وقد وصفها ياقوت في معجم البلدان فقال: تبوك، بالفتح ثم الضم وواو ساكنة، وكاف، موضع بين وادي القرى والشام، وقيل بركة لأبناء سعد من بني عذرة.
وقال أبو زيد: تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر، نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل وحائط ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء في بعض المعاجم الاسلإمية، أن أصحاب الأيكة الذين جاء ذكرهم في القرآن، الذين بعث الله إليهم نبي الله شعيب عليه السلام كانوا في تبوك، وأن شعيبًا لم يكن منهم، وإنما كان من مدين
…
ومدين تقع ديارهم على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر)، وعلى ست مراحل من تبوك.
قال ياقوت: وتبوك تقع بين جبل حُسْمَى وجبل شرورى .. حسمى غربيها وشرورى شرقيها. وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلة، وكان ابن عريض اليهودى قد طوى بئر تبوك لأنها تنطم في كل وقت، وكان عمر بن الخطاب أمره بذلك.
تاريخ قبائل الشمال:
يعتبر الركن الشمالي الغربي من جزيهرة العرب (بما فيه تبوك) موطنًا لقبائل عديدة ذات تاريخ مشهور، وكانت هذه القبائل منذ عصور قديمة - ذات مقدرة قتالية ممتازة، وقد كان الملك في بعضها، فكان منها ملوك حكموا الأطراف الشمالية لجزيرة العرب، والأطراف الجنوبية للشام.
وكل هذه القبائل يرجع أصلها إلى حضرموت، وترجع هذه القبائل القحطانية التي استوطنت شمال الجزيرة وجنوب الشام في فترات مختلفة - إلى أصلين اثنين - وهما:
1 -
قضاعة .. وقضاعة نزحت من الشحر بحضرموت وأسست ملكا لها بأطراف الشام، ويتفرع من قضاعة عدة قبائل منها بلى وعذرة وبهرأ وغيرها.
2 -
بنو كلب. وهؤلاء من كندة، وكندة نزحت من شمال حضرموت، وأسست لها ملكا مشهورًا في دومة الجندل التي تعرف اليوم بالجوف، وكان هؤلاء الحضارمة القضاعيون والكنديون يدينون بالوثنية، إلا أنهم - بتأثير - من جيرانهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون الشام - تحولوا إلى النصرانية، فأكثرية قبائل الشمال القحطانيين عند ظهور الإِسلام كانوا على النصرانية.
وكانت قبائل قضاعة تستوطن منطقة تبوك وما حولها حتى شواطئ البحر الأحمر غربًا، أما قبائل كلب من كندة فتسكن إلى الشرق وشمال الشرق من تبوك - حيث كان ملكهم بدومة الجندل (1).
وكانت هذه القبائل (قضاعة وكندة) على عداء شديد للمسلمين، وكانت أحيانًا - لما تشعر به من قوة وكثرة جند - تفكر في غزو المسلمين في المدينة، وذلك (على ما يبدو) بتحريض من أصدقائهم الرومان، الذين يتهيبون حروب الصحراء، ثم بدافع من هؤلاء القحطانيين من الخوف من أن يمتد نفوذ الإِسلام إلى مناطقهم، التي لهم فيها ملك وسلطان مثل ملوك (دوفة الجندل) أو اليد المطلقة في الحكم تحت رعاية الرومان مثل قبائل قضاعة في الركن الشمالي الغربي من الجزيرة ومشارف الشام.
غير أن المسلمين كانوا متيقظين لهذه الناحية، فما يبلغهم أي حشد من هؤلاء الحضارمة النصارى (وخاصة قضاعة) إلا ومسارعوا إلى غزوهم وتشتيت كلهم قبل أن يشرعوا في تنفيذ ما يفكرون فيه من غزو للمدينة.
وقد دلت الأحداث على أن هناك مصلحة مشتركة بين قبائل الشمال المتنصرة القحانية وبين الإمبراطورية البيزطية، جعلت الفريقين يجعلون من قواتهم المسلحة قوة واحدة تقف على أهبة الاستعداد لمحاربة المسلمين، كلما سنحت الفرصة، وهذه المصلحة المشتركة هي حرص الحضارمة من قضاعة وكلب على الاحتفاظ بسلطانهم الشبه المطلق في مناطق الشمال،
(1) انظر كتابنا (العرب في الشام قبل الإِسلام) ففيه أوسع التفاصيل عن تاريخ هذه القبائل وعن ما كان لها من ملك وسلطان وقوة في الشمال وفي أطراف الشام.
وحرص الرومان على حماية حدودهم من أي غزو قد تتعرض له الشام من قبل المسلمين.
وهذه حقيقة أثبتها التاريخ، فالناظر في كتب السير والمغازى وكتب التاريخ الأخرى يجد أن قبائل الشمال المتنصرة هؤلاء (وخاصة قضاعة) كانوا أشبه بحرس يحرسون حدود الشام الجنوبية لحساب الإِمبراطورية البيزنطية، كما يحاولون الصمود والثبات في بواديهم بالشمال من الجزيرة في وجه أي تحرك تقوم به القوات الإِسلامية.
فكانت (دائما) فصائل الخيالة والهجانة من هذه القبائل تقوم بأعمال الدورية في شمال الجزيرة، وكثيرًا مما تصطدم هذه الدوريات بطلائع القوات الإِسلامية المسلحة، وحتى العزل من الدعاة المسلمين تفتك بهم هذه القبائل المتوحشة، فقد رأينا (كما هو مفصل في كتابنا السابع غزوة مؤتة) كيف أعدم هؤلاء العرب المتنصرة في ذات الطلح بالشمال خمسة عشر مدنيًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون إلى الإِسلام بالحسنى.
كذلك كانت قبائل الشمال (وخاصة منطقة تبوك وكل الركن الشمالي الغربي) أشبه بمرتزقة في جيش الإمبراطورية البيزنطية، رغم ما هم فيه من حرية واستقلال، إلا أنهم (رغم كونهم مستقلين في بواديهم داخل الجزيرة العربية) كانوا دائمًا رأس الحربة في أية قوات رومانية مسلحة تعمل ضد المسلمين، وكان هؤلاء العرب (وخاصة قضاعة) قوة مرهوبة ذات عدد غامر، تستفيد منهم الإِمبراطورية البيزنطية، ولقد رأينا كما هو مفصل في كتابنا السابع (غزوة مؤتة) كيف كانت هذه القبائل من الحضارمة، يشكلون نصف الجيش الروماني الذي قاده أخو هرقل واصطدم في (مؤتة) بمنطقة الكرك بالجيش الإِسلام الذي كان أول جيش يجتاز حدود الجزيرة إلى الشام في تاريخ الإِسلام ورأينا كيف قتل في معركة مؤتة إلى جانب الرومان قائد هؤلاء الحضارمة المتنصرة واسمه مالك رافلة.
بل لقد كان القضاعيون (هؤلاء الذين كان منطلق هجرتهم الشجر بحضرموت). تنتسب إليهم القبيلة العظيمة ذات التاريخ الحافل في الجاهلية والإِسلام (قبيلة جهينة) التي تمتد ديارها من ساحل خليج العقبة على
شريط البحر الأحمر حتى ينبع، إلا أن جهينة هذه لم تكن على صلة بالرومان أو على ولاء لهم في أية فترة من فترات تاريخها، ولهذا كانت جهينة من أسرع القبائل استجابة لدعوة الإِسلام، وكانت منهم كتيبة مؤلفة من حوالي أربعمائة مقاتل اشتركت تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة.
وذلك عكس إخوانهم من قبائل قضاعة في الشمال مثل بهراء وعذرة وعاملة وسليح، الذين ظلوا بمنطقة تبوك وما جاورها من مناطق حدود الشام على عداء شديد للإِسلام والسلمين، يشاطرهم هذا العداء الشديد المستحكم أبناء عمومتهم الحضارمة الآخرون من كندة الذين منهم ملوك دومة الجندل ذات القلاع المشهورة، والتي - لعناد أهلها في الكفر ومعاداة المسلمين - حاربهم خالد بن الوليد مرتين، مرة عندما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في أربعمائة فارس من تبوك ليشن الغارة على هؤلاء الكنديين الحضارمة من كلب، ومرة في خلافة الصديق، عندما جاءهم خالد من الحيرة في العراق واقتحم عليهم قلاعهم في دومة الجندل بمساندة عياض بن غنم الفهرى الذي عجز بمفرده عن إخضاع أولئك الكنديين لأنهم كانوا ذوي عدد مسلح غفير وكانوا يعتصمون بحصون مبنية بالحجارة.
ورغم الحملات التي كان المسلمون يشنونها ضد قبائل الشمال النصرانية هذه من كندة وقضاعة، فقد ظلوا قوة ذات خطر على الإِسلام والمسلمين، لأنهم كانوا إذا ما ضايقتهم أية حملة عسكرية إسلامية ورأوا أن ليس من مصلحتهم الاشتباك معها، يلجأون إلى جنوب الشام حيث يتلقاهم حلفاؤهم وشركاؤهم في النصرانية، الرومان بالترحاب وكانوا إذا ما عادت القوات الإِسلامية إلى المدينة عاد هؤلاء القضاعيون النصارى إلى بواديهم وديارهم في مناطق الحدود الشمالية، كما حدث حين غزاهم عمرو بن العاص ومعه صفوة ممتازة من كبار المهاجرين والأنصار وذلك في غزوة ذات السلاسل التي كانت موجهة بصفة خاصة إلى قضاعة الذين هم أخوال عمرو نفسه.
إذن فهناك جيوب مقاومة كبيرة ضد الإِسلام من بطون الحضارمة من قضَاعة وكندة الذين تقع ديارهم في الشريط الشمالي من الجزيرة، والممتدة
من حدود العراق شرقًا، حتى بحر القلزم (البحر الأحمر) غربًا، وهذه الطون التي أكثرها يدين بالنصرانية - إذا ما اتحدث كلمتها ستشكل خطرًا كبيرًا على الوجود الإسلامي، لأنها (إذا ما اتحدت) تستطع حشد ما لا يقل عن مائة ألف مقاتل، وهذا العدد إذا ما غفلت عنه القيادة الإِسلامية العليا في المدينة وسمحت له بالتجمع والتكتل والتلاحم داخل الجزيرة العربية، فستجد هذه القيادة نفسها أمام مشكلة عسكرية قد تكون أخطر من مشكلة الأحزاب التي واجهتها في السنة الثالثة للهجرة، ومن مشكلة التجمع الهوازني الذي عانت من أخطاره الشديدة الأهوال في ملحفة حنين.
يضاف إلى خطورة جيوب المقاومة المتمثلة في هذه البطون القضاعية الكندية المنتشرة في الشريط الشمالي من الجزيرة. يضاف إلى هذه الخطورة خطر آخر كبير وهو وجود الرومان في الشام الذين - منذ عصور قديمة - كانوا ولا يزالون على صلات وثيقة بهؤلاء النصارى من كندة وقضاعة، وذلك بحكم اعتناق الجميع لدين هو واحد في الأصل، وبحكم ارتباط هؤلاء الجنوبيين بتاج الإمبراطورية البيزنطية التي على رأسها ملك (وهو هرقل) الذي لا تزال خمرة انتصاره على الفرس تلعب برأسه، حيث عاد لتوه من معارك سجل فيها أروع الانتصارات على الإِمبراطورية الفارسية التي كانت - قبل أن يهزمها هرقل - أعظم إمبراطورية في العالم. فالرومان قد لا يغامرون بزج فيالقهم الثقيلة في صحراء الجزيرة العربية كي يقضوا على كيان الإِسلام الذي أصبحوا يتخوفون من انتشاره عبر الحدود إلى الشام وخاصة بعد أن تلقى ملكهم هرقل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه وشعبه إلى الإِسلام، وأدرك الملك القسيس هرقل - بما عنده من علم بالإِنجيل - أن محمدًا هو النبي الذي بشر به عيسى في الإنجيل .. الرومان هؤلاء قد لا يغامرون بزج فيالقهم في صحراء الجزيرة العربية لقطع أو على الأقل لإيقاف تيار الإِسلام، لأنهم يخشون حروب الصحراء أشد الخشية، لأن هذه الصحراء تنجح فيها (فقط) حرب الصاعقة التي لا يجيدها الجندى الروماني بيما يجيدها الجندى المسلم البدوى، وذلك لثقل سلاح ومعدات الأول وعدم مباشرته في حياته العسكرية
لمثل هذه الحرب، ولخفة سلاح ومعدات الثاني ومعرفته العملية التامة بحرب الصاعقة هذه التي نشأ وتدرب عليها.
نعم قد لا يغامر الرومان بأن تقتحم فيالقهم الثقيلة الصحراء في الجزيرة، ولكنهم بما لديهم من إمكانات، قد يقتحمون مناطق معينة من الجزيرة تصلح لأن تكون قواعد لقواتهم الثقيلة، ثم يوحدون كلمة البطون العربية البدوية من قضاعة كندة والقادرة (بحكم نشأتها البدوية) على حروب الصاعقة، ويكونون منها (داخل الجزيرة نفسها) جيشًا يكون عربيًّا في مظهره ورومانيا في جوهره، حيث تتولى القيادة الروبانية تسليح هذا الجيش العربي وإعاشته، وبالتالى قيادته وتوجيهه، بقيادة ضباط من الرومان لغزو المسلمين في المدينة، أو على الأقل شنّ غارات متفرقة على المسلمين، بقصد اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من جزيرة العرب لحساب الرومان، وبقصد إعاقة أيّ نفوذ وامتداد لدعوة الإِسلام في الشريط الشمالي من الجزيرة، وبالتالى حراسة الشام من أن تتغلغل إليه هذه الدعوة.
هكذا كانت الاحتمالات، وهكذا كان الموقف في شمال الجزيرة، حيث البطون العربية النصرانية من قضاعة وكندة الحضارمة، الذين يشكلون جيوب مقاومة قوية ضد الإِسلام داخل الجزيرة، كما أن إلى جانبهم في الشام قوات الإِمبراطورية الرومانية. التي تعتبر (بعد انتصارها على الفرس) أعظم وأقوى إمبراطورية في العالم، والتي تجد في نفسها الرغبة والقدرة على اجتياز حدود الجزيرة لمحاربة المسلمين.
فهو إذن خطر روماني جسيم قائم في الشمال يهدد المسلمين، وفعلًا قد تجسد هذا الخطر الروماني الكمير حين وصلت إلى المسلمين أنباء عن حشود رومانية في جنوب الشام شمالي تبوك.
إذن لا بد من تحرك عسكرى إسلامي ضخم يرهب الرومان (أولًا) وينسخ من أذهانهم فكرة القدرة على اجتياز حدود الجزيرة، ويثبت لهم أن المسلمين قادرون عسكريًا على أن ينقلوا المعركة إلى الشام نفسها، ثم يقوم هذا التحرك الإسلامي - بعد إرهاب الروم - بتصفية جيوب المقاومة