الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهي ليست غارة خاطفة يمكن القيام بها عبر مسافة قصيرة وبقوات خفيفة، كما أنه لم يعد مجال للتورية في التحرك حيث لم تغد "في جزيرة العرب" قوة معادية لها خطرها تستدعى هذا الحشد العظيم يروى الرومان والخليط من العرب والنصارى الموالين لهم في منطقة الحدود في تبوك ودومة الجندل والعقبة وإيلة (إيلات) وما جاورها.
فهو إذن غزو شامل وبقوة ضاربة، ستقطع مسافة طويلة جدًّا، وقد يتطلب الأمر أن تجتاز هذه القوة الضاربة حدود الجزيرة إلى الشام للقتال هناك.
ثم إن للرومان في المدينة طابورا خامسًا من المنافقين، سيطيرون لهم -ولا شك- خبر هذا الحشد الضخم، والذي -حتى وإن التزم الرسول صلى الله عليه وسلم سياسة التكتم بشأن وجهة هذا الحشد- فإن الرومان سيكون من المؤكد لديهم أنهم وحلفاؤهم من قضاعة وكلب وغسان، دون سواهم، المقصودون بهذا الحشد، لأنهم يعلمون أنه -بعد القضاء على العسكرية الهوازنية وقبلها القرشية والغطفانية وبعدها الطائية- لم تعد هناك في جزيرة العرب قوة عسكرية معادية للإسلام ذات خطر تستدعى مثل هذا الحشد العسكري الضخم الذي لم تشهد الجزيرة مثله في العهد النبوي.
لهذا لم يعد من المفيد أن يلتزم الرسول صلى الله عليه وسلم خطة الكتمان بالنسبة لهذا التحرك، لأن الرومان بمجرد علمهم "من جواسيسهم" بهذا التحرك، سيجزمون بأنهم وحلفاءهم العرب في الشمال، المقصودون دون غيرهم بهذا التحرك، ثم لطول المسافة وبعد الشقة في هذه الغزوة -ولما سيلاقى فيها الجيش من متاعب نتيجة شدة الحر- لا بد من مصارحة المسلمين بالحقيقة، كى لا ينخرط في سلك الجيش إلا الذي لديه من الإِيمان الصادق ما يجعله يتقبل المشاق والصعاب في غزوة العسرة هذه بثقة وتصميم، ويجعله يوفر لنفسه من النفقة وبقية الوسائل ما يمكنه من التغلب على الصعاب الذي ستلاقيه ولا شك في هذه الغزوة الشاقة.
الاستنفار العام بين المسلمين:
وتقديرًا لخطورة ما الرسول صلى الله عليه وسلم مقدم عليه من هذا الغزو الشاق
الخطير، وبعد معادلات وحسابات دقيقة للنتائج والعواقب التي يتوقعها المسلمون نتيجة ما قد يحدث من صدام - قد يكون ضاريًا - بين المسلمين وبين بني الأصفر "الرومان" فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن يستوعب جيشه كل قادر على حمل السلاح من المسلمين في الحاضرة والبادية، فأعلن الاستنفار العام موضحًا للجميع أنه يقصد الروم في الشمال.
فبالإضافة إلى إعلان الاستنفار الكامل بين المهاجرين والأنصار في الحاضرة المدينة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البادية بمندوبين خاصين من السابقين الأولين من أصحابه، كل من هؤلاء المندوبين إلى القبيلة التي ينتسب إليها ليستنفرها للجهاد في سبيل الله، على أن يخبروهم أن الهدف من هذا الحشد هو الرومان.
ولم يقتصر في بعث مندوبيه صلى الله عليه وسلم للاستنفار والحشد على سكان العاصمة المدينة وسكان البوادى فحسب، بل بعث أيضًا إلى أهل مكة الذين لم يمض على إسلامهم أكثر من ثمانية أشهر - يستنفرهم للجهاد.
وذكر المؤرخون أسماء أحد عشر من مشهورى الصحابة من أبناء القبائل، بعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البادية ليستنفروا قبائلهم للقتال تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المبعوثون هم:
اسم المبعوث - اسم القبيلة المبعوث إليها
1 -
بريدة بن الحصيب - أسلم الذين تقع منازلهم بين مكة والمدينة.
2 -
أبو رهم الغفاري - غفار ناحية بدر والصفراء.
3 -
أبو واقد الليثى - بني ليث من كنانة
4 -
أبو الجعد الضمرى - بني ضمرة بالساحل.
5 -
رافع بن مكيث - جهينة.
6 -
جندب بن مكيث - جهينة.
7 -
نعيم بن مسعود - أشجع.
8 -
بديل بن ورقاء - خزاعة.
9 -
عمرو بن سالم - خزاعة.
10 -
بشر بن سفيان - خزاعة.
11 -
العباس بن مرداس (1) - سليم.
أما المبعوثون إلى أهل مكة فلم أر فيما بين يدي من مصادر اسم أحد منهم، وكما ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل مكة يستنفرهم كما بعث إلى أهل البوادى، كما جاء في مغازي الواقدي.
ولقد لقيت دعوة استنفار الرسول صلى الله عليه وسلم تجاوبًا كبيرًا، سواء في الحاضرة أو في البادية، فتم حشد ثلاثين ألف مقاتل، رغم كيد المنافقين ومحاولة توهينهم عزائم المسلمين.
ولقد تحدث الواقدي في كتابه المغازي عن التهيؤ لهذه الغزوة الخطيرة. فقال راويا عن عشرة من شيوخه: كانت الساقطة -وهم الأنباط- يقدمون المدينة بالدرك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإِسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمينِ كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد حمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه "أي دفع رواتبهم" لسنة كاملة، وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة، وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، ولم يكن عدو أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم -إذ كانوا يقدمون عليهم تجارا- من العدد والعدة والكراع.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوة إلا ورى بغيرها، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، واستقل غزى وعددًا كثيرًا، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم، وأخبر بالوجه الذي يريد. ثم ذكر الواقدي أسماء المبعوثين الذين بعثهم إلى البادية لاستنفار سكانها للجهاد.
لقد كانت السنة التي أعلن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الاستنفار العام لمواجهة الرومان في الشمال، سنة جدب وجفاف، فالمسلمون "وخاصة البادية"
(1) قد أتينا على ترجمة هؤلاء الصحب الكرام فيما نشر من هذه السلسلة.
في حالة ضيق شديد، ولذلك أطلق على غزوة تبوك اسم غزوة "العسرة" لما لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جهد ومشقة لإكمال تمويل وتجهيز هذا الجيش الضخم، ولكون هذه الغزوة قام بها المسلمون في صائفة شديدة الحر، ولطول المسافة التي سيقطعها الجيش الضخم هذا من المدينة إلى الحدود الشمالية، فإن التجنيد الإِجبارى لم يتناول إلا الذين يجدون مركبًا من خيل أو إبل، فقد كان هذا الجيش كله محمولا، ولذلك أعفى الذين لم يجدوا ما يحملون عليه في هذه الغزوة، أعفوا من الاشتراك في هذه الغزوة رغم حرصهم الصادق الشديد على أن يشهدوها، كما جاء ذلك صريحًا في القرآن الكريم:{لَيسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} .
ومما يدل على أن التجنيد لغزو الروم كان إجباريًا، لا يجوز لمسلم قادر "جسديًا وماديًا" أن يتخلف عن الانخراط في سلك الجيش الغازى، قول الله تعالى -بعد أن عذر المعسرين ماديًا وأثنى عليهم-:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وقد يتساءل البعض: لماذا لم يؤجل الرسول صلى الله عليه وسلم تحرك هذا الجيش، حتى ينتهى فصل الصيف اللاهب، وتتحسن أحوال الناس المعيشية فتزول الضائقة المادية التي هم عليها الناس، الذين لولا سخاء أغنياء الصحابة وتبرعهم العظيم بأموالهم لما استطاعوا "لفقرهم" الاشتراك في هذه الغزوة التاريخية؟ .
الجواب هو أن الحالة في الحدود الشمالية "كما ذكرت المعلومات" من حيث حشد الجيوش الرومانية والعرب المتنصرة بقصد اجتياح حدود الجزيرة- تدعو إلى القلق والسرعة الشديدة من المسلمين لدفع الخطر الروماني قبل أن يستفحل، وهذا "على ما يبدو"هو الذي اضطر القيادة