الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته فأشرقت على الحصن فرأت البقر فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم، هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا، قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد. قال: يقول أكيدر: والله ما رأيت جاءتنا ليلة بقر غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردت أخذها شهرًا أو أكثر، ثم أركب ركب بالرجال وبالآلة .. فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم (1).
كان خالد يعلم أن الملك أكيدر وحاشيته يعتصمون بقلعة دومة الجندل، وهي قلعة حصينة لها أسوار عالية وأبراج عظيمة وباب من الخشب السميك جدا، وأنه لذلك من الصعب اقتحامها إلا بعد ضربها بآلات الحصار الثقيلة مثل الراجمات والقاذفات باللهب مثل النجنيق والعرادات والدبابات التي يستخدمها الجنود لنقب الأسوار أو تسلقها واقتحامها كى ينفذوا إلى الداخل.
كيف استسلمت القلعة:
وخالد ليس لديه شيء من هذه الأدوات الضرورية لمن يريد اقتحام مثل قلعة دومة الجندل، وإنما نجاء في قوة صغيرة خفيفة من الفرسان الذين لا يمكنهم بأي حال من الأحوال فتح القلعة عن طريق اقتحامها عنوة. وقد رأينا فيما بعد كيف اشترك في فتحها للمرة الثانية جيشان عام 12 هـ بقيادة خالد بن الوليد وعياض بن غنم الفهرى الذي ظل سنة يحاصرها ولم يستطع فتحها إلا بمساندة خالد.
لذلك عندما اقترب خالد برجاله من القلعة، قرر أن يكمن بفرسانه في مكان خفى بحيث لا يعلم بوجوده أحد من الأعداء، وذلك لانتظار فرصة مواتية تمكنه؛ من انجاز مهمته المتمثلة في فتح دومة الجندل، وحتى الخيل المدربة التي يقودها خالد امتنعت عن الصهيل حسب إشارة أصحابها من المسلمين، وذلك كى لا يسمعها الأعداء فيتنبهوا.
(1) الطارد بفتح الميم وكسر الراء - جمع المطرد، وزن منبر، وهو رمح قصير يطرد به، وقيل يطرد به الوحش (لسان العرب ج 4 ص 257).
ونجح خالد في كمينه نجاحا مكنه من السيطرة على دومة الجندل دونما أي قتال يذكر، فقد كان من توفيق الله تعالى أن خرج الملك أكيدر وبعض أفرأد أسرته في الليل ومعه أخوه الأمير حسان لمطاردة البقر الوحشى، وهم لا يغلمون بمكان خالد وفرسانه، وعندما ابتعدوا من القلعة - وخالد يترصدهم - أمر فرسانه فطوقوا الملك أكيدر وصحبه فلم يقاوم لأنه في قلة قليلة من رجاله، ولكن أخاه الأمير حسان رفض الاستسلام فقاتل حتى قتل، أما المملوكان، فقد تمكنا من الإفلات ورجعا إلى القلعة ليخبرا قادة الجيش فيها بما حدث لملكهم الذي أصبح في أسر خالد بن الوليد. فتنبه المعتصمون بالقلعة واستعدوا للقتال.
ولكن ملكهم أكيدر الأسير أمرهم بإلقاء السلاح وفتح أبواب الحصن للمسلمين، وذلك حسب اتفاق تم بينه وبين القائد خالد بن الوليد، وذلك أن خالدًا عرض على الملك أكيدر أن يحقن دمه ويأمر المتحصنين في القلعة بإلقاء السلاح وفتح أبوابها للمسلمين فقبل فدخلوها وسيطروا عليها واستولوا على ما فيها من أموال ورقيق، ومنحوا كل جنود أكيدر الأمان على أرواحهم.
قال أصحاب المغازي يصفون وقوع الملك أكيدر في قبضة خالد بن الوليد وفتح قلعة دومة الجندل دونما ققال: (فلما فصلوا -أي الملك أكيدر وحاشيته- من الحصن، وخيل خالد تنتظرهم لا يصهل فها فرس ولا يتحرك، فساعة فصل أخذته الخيل، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان، فقاتل حتى قتل، وهرب الملو كان ومن كان معه من أهل بيته فدخلوا الحضن، وكان على حسان قباء مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمرى حتى قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
وتشير مصادر التاريخ إلى أن خالدا لم يتمكن من فتح دومة الجندل إلا بعد أن غادر الرسول صلى الله عليه وسلم منطقة تبوك عائدا إلى المدينة، بدليل أن خالدا قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الملك أكيدر (1)، وكان رسول الله
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 1027 كما أن البيهقي يذكر -كما في البداية والنهاية- أن خالدًا إنما تحرك من المدينة لا من تبوك لفتح دومة الجندل (البداية والنهاية ج 5 ص 17 - 18) فالله أعلم.
- صلى الله عليه وسلم قد أصدر أمره إلى القائد خالد - وهو يوليه على كتيبة الفرسان المكلفة بفتح دومة الجندل - أن لا يقتل الملك أكيدر عندما يقبض عليه.
وأعطى بعض أصحاب المغازي مزيدا من التفاصيل عن فتح دومة الجندل - كل حسب علمه فقالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله وائت به إلي، فإن أبى فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بحبرة من طئ شعرًا يذكر فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد (وإنك تجده يصيد البقر) وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن:
تبارك سائق البقرات أنِّي
…
رأيت الله يهدى كل هاد
ومن يك عاندا عن ذي تبوك
…
فإنا قد أمرنا بالجهاد
…
وقال خالد بن الوليد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك. فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاق انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن، ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن، فرأوا ذلك فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر، فقال أكيدر لخالد: تعلم والله لا يفتحون لي ما رأوق في وثاق فخل عنى فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتنى على أهله. قال خالد: إني أصالحك. فقال أكيدر: إن شئت حكمتك وإن شئت حكمتنى. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطت. فصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة فرس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم فيهما بحكمه.
فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن، فدخله خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلا إلى المدينة، ومعه أكيدر ومضاد، فلما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية (1) وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما، وكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا فيه أمانهم وصلحهم وختمه يومئذ بظفره.
(1) وذكر بعضهم - وهو الأقرب إلى الصواب - أن الجزية إنما فرضت على مضاد أخي أكيدر لأن أكيدر أسلم ثم ارتد في خلافة الصديق والله أعلم.