الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تشهد ثم فوَّق له بسهم فقتله، فقال: لا يسبق بهذا الخبر إلى نبي الله أول منى، فجاء صالحا فأخبره الخبر، فرفع صالح يديه مدًّا فقال: اللهم العن أبا رغال ثلاثًا (1).
النهي عن دخول مساكن ثمود:
وجاء في كتب الحديث والمغازى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين -يعني قوم صالح- إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال "وهو بالحجر": لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه (2) وأسرع السير حتى أجاز الوادي (3).
وفي مغازي الواقدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم. وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين، قال فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: إلقه، فألقاه فما أدرى أين وقع حتى الساعة. وكان ابن عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين حاذاهم "أي المعذبين": إن هذا وادي النفر، فجعلوا يوضعون فيه ركابهم "أي يحثونها لتسرع في المشي" حتى خرجوا منه (4).
العناصر المشبوهة والتشكيك داخل الجيش:
فيما مضى من هذا البحث ذكرنا أن عناصر الجيش النبوي التحرك نحو تبوك كانت تضم فئات من الرتل الخامس الذين ليس لهم من الإِسلام إلا حمل هويته في الظاهر، وهم المنافقون، والذين تنطبق عليهم كلمة "باطنيين"
(1) مغازي الواقدي، ج 3 ص 1007.
(2)
قنعه أي غطاه كي لا يرى.
(3)
صحيح البخاري ج 6 ص 26 ومغازي الواقدي ج 3 ص 1008.
(4)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1008.
لأنهم يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر.
وقد كشفهم القرآن الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم في آيات أُنزلت عليه كما تقدم حينما فاهوا بقبيح القول من السخرية والاستهزاء بالله وبرسوله وبأصحابه، ولم ينكروا قبيح صنعهم حينما استجوبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم اعتذروا بأن ما بدر منهم إنما كان باعثه الخوض واللعب فحسب ولكن القرآن أدانهم بالكفر فقال:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} الآية، وقد تاب البعض منهم وبقى البعض على كفره الباطنى.
ومع إدانة القرآن لهم بالكفر والإلحاد، فإن الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم لم يطردهم من الجيش ولم يتخذ ضدهم أيّ إجراء تأديبى، رغم أنه -حسب تعبيرات هذا العصر- في حالة استنفار وطوارئ، واستمرار بقائهم أحرارًا داخل جيش كبير يتحرك للحرب قد يسبب متاعب لهذا الجيش ولقائده الأعلى على وجه الخصوص.
وفعلًا لقد استمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار من أفراد هذا الجيش يعانون الشيء الكثير من المتاعب من هؤلاء المنافقين فقد كانت هذه العناصر الخبيثة التي تنطوى على الكفر وتتظاهر بالإسلام، تغلى مراجل الحقد والحسد في قلوبها المريضة، فقد أقَّضَ مضاجعها واعتصر قلوبها أن تصبح للمسلمين وحدة بهذا التلاحم الصادق الذي لم تشهد جزيرة العرب بل والعالم كله في تاريخه لها مثيلًا، وساء عناصر النفاق الخبيثة هذه أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مسقط رأسه مستخفيًا خائفًا وحيدًا بعد أن أهدر أهله وعشيرته دمه، وليس معه سوى صاحبه الوفى الصديق الأكبر .. ساء هذه العناصر المنافقة أن تصبح هذه القوة العسكرية الضخمة "ثلاثون ألف مقاتل" تأتمر "في طاعة لا مثيل لها" بأمر محمد صلى الله عليه وسلم .. هذه القوة التي كانت الأكثرية الساحقة بينها "الأوس والخزرج" مهيئة وفي طريق الإعداد لأن تكون رعية لرجل من هؤلاء المنافقين الذي كان أصحابه "قبل مجئ صلى الله عليه وسلم إِلي المدينة بقليل" يضعون الترتيبات لتتويجه ملكًا على يثرب وهو عبد الله بن أَبِي سلول سيد الخزرج.
فهؤلاء المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيّ يرون في قرارة أنفسهم الخبيثة أن مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ودخول أهلها في الإسلام، قد كان بمثابة انقلاب أبيض "إن صح هذا التعبير" قلب الأوضاع الجاهلية التي كانت قاب قوسين أو أدنى كى يصبح فيها رأس النفاق ملكًا متوجا على يثرب، حيث جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقوم ابن أبَيّ يرصعون له التاج بالأحجار الكريمة ليضعوه على رأسه (1).
لذا فرأس النفاق والعناصر الموالية له يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنشره الإسلام في يثرب قد سلب زعيهم عبد الله بن أبيّ الملك الذي كانوا يهيئونه للتربع على عرشه، من هنا جاء إيغال هؤلاء المنافقين في الكيد للإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بهدف تفتيت وحدة المسلمين وتشتيت شملهم، عسى أن يقوم على أنقاض وحدتهم -التي أقامها الإسلام- الملك الذي يطمع فيه عبد الله بن أبيّ.
ولقد كان المنافقون -منذ أن تشرفت المدينة بمقدم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وهم يعملون ضد الوضع الجديد الذي أقامه الإسلام، فيحيكون الدسائس والمؤامرات ضد الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة تسنح لهم، ولكنهم في غزوة تبوك وسعوا من أنشاطاتهم التخريبية وقاموا ضد النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال خطيرة جدًّا بلغت حد محاولة اغتياله، وهي أعمال لم يجزؤ المنافقون على القيام بمثلها في الماضي.
فمن أعمالهم التخريبية التشكيكية، محاولتهم إشاعة الريب بين عناصر الجيش في صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حدث أن عسكر الجيش النبوي بمنطقة ليس بها ماء وهو في طريقه إلى تبوك، فتعرض الجيش "وهو ثلاثون ألفًا" لعطش شديد، فأبلغوا الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة الحالة، فتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بالدعاء فأكرمه بمعجزة، حيث أنزل الله تعالى الغيث فارتوى الجيش بالماء وسقوا خيلهم
(1) انظر قصة عبد الله بن أبي ومحاولة تتويجه في كتابنا الأول (غزوة بدر الكبرى).
وإبلهم وسكنت نفوسهم، وكان بإمكان عناصر النفاق في الجيش النظر في هذه المعجزة ليعتبروا بها كدليل من الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم تمادوا في كفرهم وعنادهم، وقالوا: إنما حدث ذلك صدفة.
فقد روى عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في طريقه إلى تبوك- أصبح ذات يوم ولا ماء مع الجيش، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء "أي الرسول وجيشه لم يكونوا بذات أرض بها آبار أو منابع للمياه" قال عبد الله بن أبي حدرد (1): فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة فدعا -ولا والله ما أرى في السماء سحاب- فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى أنى لأنظر إلى السحاب يأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأنى أسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطر، ثم كشف الله السماء عنا من ساعتها وإن الأرض إلا غدر تناخس (2) فسقى الناس وارتووا عن آخرهم، واحتملوا ما يحتاجون إليه، وأسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشهد أنى رسول الله.
وروى عن الفاروق عمر بن الخطاب أنه قال: خرجنا في حر شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش حتى إن الرجل لينحر بعيرة فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقى على كبده، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله قد عودك الله من الدعاء خيرًا، فادع الله لنا. قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فدعا فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس.
قال عبد الله بن أبي حدرد: قلت لرجل من المنافقين: ويحك أبعد هذا شيء؟ فقال: سحابة مارة، وهو أوس بن قيظى (3).
(1) انظر ترجمته في كتابنا (غزة خيبر).
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1009.
(3)
السيرة الحلبية ج 2 ص 258 ومغازي الواقدي ج 2 ص 1009.
وحدث يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟ فقال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبنى عمه. سمعت جدك قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قومًا منافقين. ثم من بعد سمعت زيد بن ثابت يقول في بني النجار: من لا بارك الله فيه، فيقال: من يا أبا سعيد؟ فيقول: سعد بن زرارة "وهو غير أسعد بن زرارة الصحابي الفاضل" وقيس بن مهر. ثم يقول زيد: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما كان من أمر الماء ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، فقلنا: يا ويحك، أبعد هذا شيء؟ فقال: سحابة مارة، وهو والله رجل لك به قرابة يا محمود بن لبيد، قال محمود! قد عرفته (1).
وطوال تحرك الجيش النبوي إلى تبوك استمر المنافقون في محاولاتهم الخبيثة لزعزعة ثقة المسلمين في صدق نبيهم، فلا تأتى مناسبة يرون أنها ملائمة لاستخدامها لتحقيق أهدافهم التشكيكية إلا واغتنموها، غير مبالين باستياء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لتصرفاتهم المشينة المتكررة، ومستغلين سعة حلم الرسول صلى الله عليه وسلم وصبره عليهم.
فقد صدف وأن حدثت حادثة ازداد لها المؤمنون الصادقون إيمانًا، وزاد لها توغل هؤلاء المشبوهين المنافقين إيغالًا في الكفر وبث الإرجاف والتشكيك في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقد روى المؤرخون أنه عندما ارتحل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حادثة إكرام الله له بإنزال الغيث، نزل منزلًا، وبات فلما أصبح افتقدت ناقته القَصْوى، فخرج بعض أصحابه يبحثون عنها، فاستغل المشبوهون في الجيش هذا الحادث، وحاولوا أن يجعلوا منه منطلقًا لتسريب الشكوك والريب إلى النفوس في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر عمارة بن حزم "وهو من أهل بدر استشهد يوم اليمامة" أن رأسًا من رؤوس النفاق وهو زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع: اليهود، فتظاهر
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 1009.
بالإِسلام، بينما ظل ينطوى على حقد اليهود وبغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم، رأس النفاق ابن اللصيت هذا كان في رحل عمارة بن حزم، فلما ضاعت ناقة الرسول القَصْوى وانطلق بعض أصحابه يبحثون عنها، قال زيد بن اللصيت: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته؟ .. كلمة خبيثة تحمل شحنة لعينة من متفجرات الريبة والشك أراد هذا المنافق أن يفجرها عسى أن تصيب شظاياها قلوب بعض البسطاء ممن في الجيش فيتلوثون بما تلوث به هذا المنافق وحزبه الخبيث، ولكن الله سبحانه وتعالى كبت هذا المنافق وأخزاه وأبطل مفعول متفجرات الزيبة والشك التي رمى بها على أسماع العسكر.
فقد بلغ الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ما قاله هذا المنافق على ملأ من الجيش، فأكد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بشر لا يعلم الغيب، ولكنه في الوقت نفسه أكد صلى الله عليه وسلم أنه نبي مرسل، والنبي -مع علو مِرتبته فوق كل مرتبة- لا يعلم من أمور الغيب إلا ما أخبره الله به، وأعلن الرسول على ملأ من الجيش أن الله تعالى أخبره. فقال صلى الله عليه وسلم: إن منافقا يقول: إن محمدًا يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بأمر السماء، ولا يدرى أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا - الشعب أشار لهم إليه - حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها. فذهبوا فجاءوا بها، وكان عمارة بن حزم حاضرًا، "وهو لا يعلم أن ابن اللصيت هو صاحب المقالة. الخبيثة" فلما جاء عمارة رحله قال لرفاقه: العجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها عن مقالة قائل أخبره الله عنه. قال": كذا وكذا - الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا، قال: فأقبل عمارة على زيد بن اللصيت يجأه (1) في عنقه ويقول: والله، إن في رحلي لداهية وما أدرى، أخرج يا عدو الله من رحلى.
(1) يجأه، قال في النهاية: يضربه.