الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون على من الأخرى، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم مقالة الجلاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الجلاس مالا من الصدقة لحاجته وكان فقيرًا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير، فحلف بالله ما تكلم به قط، وأن عميرًا لكاذب -وهو عمير بن سعيد- وهو حاضر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام وهو يقول: اللهم أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به، فأنزل الله على نبيه:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله تعالى: {أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} للصدقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الجلاس: أسمع، الله قد عرض على التوبة، والله لقد قلت ما قال عمير، ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خير كان يصنعه إلى عمير بن سعيد، فكان ذلك مما عرفت به توبته (1).
المرور بديار ثمود والنهي عن الشرب من بئرها:
وكما هي سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم الحكيمة لم يتخذ أي إجراء ضد عناصر النفاق لكلام التثبيط والكفر والاستهزاء الذي فاهوا به، مع أن القرآن الكريم أدانهم بذلك بعد إنكارهم.
واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تحركه نحو تبوك، وأثناء التحرك مر بوادى القرى ذي المزارع الشهيرة والمناخ الجميل، والذي قال فيه الشاعر:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة
…
بوادى القرى إني إذن لسعيد
كما مر بالحجر (2) من ديار ثمود (قوم صالح) وهناك نهى الجيش أن
(1) سيرة ابن هشام ج 4 ص 168، ومغازي الواقدي ج 3 ص 1003 و 1004 و 1005، والسيرة الحلبية ج 2، والطبرى ج 3 ص 108.
(2)
الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) قال ياقوت في معجمه: اسم ديار ثمود بوادى القرى بين المدينة والشام، وقال الأصطخرى: الحجر قرية صغيرة قليلة السكان، وهو من وادي القرى على يوم بين جبال .. وبها كانت منازل ثمود، قال تعالى:{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قال: ورأيتها بيوتًا مثل بيوتنا في أضعاف جبال، وتسمى الجبال الأثالث، وهي جبال إذا رآها الرائى=
يشرب أحد أو يتوضأ من البئر التي كانت ثمود تستقى منها.
وكان ثمود جيل من طغاة البشر عصوا الله وتحدوا رسوله صالح بعد أن كذبوه، وقد جاء ذكر قصتهم وقصة ناقة نبيهم صالح في القرآن، وكانوا قد عقروا هذه الناقة عصيانا وتحديًا لأمر الله تعالى فحل بهم العذاب العاجل حيث أبادهم الله تعالى بالرجفة.
فقد جاء في كتب التاريخ والسير أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمسى بالحجر من ديار ثمود، قال: أنها ستهب الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد منكم إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله. وحدث ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أصحابه، حيث هاجت ريح شديدة عاصفة، وكما هي تعليمات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم لم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من الأنصار من بني ساعدة، خرج أحدهما منفردًا لحاجته، وخرج الآخر منفردًا أيضًا في طلب بعيره.
أما الذي خرج لحاجته فقد أصيب بنوبة خنق شديدة، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فقد احتملته الريح حتى قذفت به في جبلى طئ، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للرجلين قال: ألم أنهكم أن لا يخرج رجل إلا ومعه صاحب له، ثم دعا بالذي أصيب بالخنق، فشفى مما ألم به، وأما الآخر الذي وقع بجبلى طئ فإن طيئا أعادته إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما عاد من تبوك إلى المدينة (1).
وكان أبو هريرة يحدِّث يقول: لما مررنا بالحجر استقى الناس من بئرها، وعجنوا فنادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوها الإبل، قال سهل
= من بعد ظنها متصلة، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها، يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل، لا تكاد ترتقى، كل قطعة منها قائمة بنفسها لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة وبها بئر ثمود إلى قال الله فيها وفي الناقة:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .
(1)
جوامع السيرة لابن حزم ص 252 والسيرة الحلبية ج 2 ص 257 ومغازي الواقدي ج 3 ص 1006. وسيرة ابن هشام ج 4 ص 165.
ابن سعد (1): كنت أصغر أصحابي وكنت مقريهم في تبوك، فلما نزلنا (أي الحجر من ديار ثمود) عجنت لهم ثم تحينت العجين، وقد ذهبت أطلب حطبًا، فإذا منادى النبي صلى الله عليه وسلم ينادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تشربوا من ماء بئرهم، فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتهم، قالوا يا رسول الله قد عجنا. قال: أعلفوه الإِبل. قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نضوين فهما كانا أضعف ركابنا.
قال: وتحولنا إلى بئر صالح النبي عليه السلام فجعلنا نستقى من الأسقية ونغسلها، ثم ارتوينا فلم نرجع يومئذ إلا ممسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا نبيكم الآيات "أي المعجزات"، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها، فعقروها فأوعدوا ثلاثًا وكان وعبد الله غير مكذوب فأخذخهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلا هلك، إلا رجل في الحرم، منعه الحرم من عذاب الله. قالوا يا نبي الله: من هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو رغال أبو ثقيف. قالوا: فما له بناحية مكة؟ قال: إن صالحا بعثه مصدقًا "أي جامعًا للزكاة" فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص (2) ومعه شاة والد ومعه صبى ماتت أمه بالأمس. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلنى إليك، فقال: مرحبًا برسول الله وأهلا، خذ، قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أم هذا الغلام بعد أمه، خذ مكانها عشرًا، قال: لا، قال: عشرين، قال: لا، قال: خمسين، قال: لا، قال: خذها كلها إلا هذه الشاة، قال: لا، قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه، فنثر كنانته ثم قال: اللهم
(1) هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة، خزرجى من الأنصار، وكان اسمه حزنا، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم سهلًا، قال الزهري: توفى الرسول صلى الله عليه وسلم وسهل ابن خمس عشرة سنة، وقد أدرك سهل ولاية الحجاج، روى عن سهل أئمة التابعين، سعيد بن المسيب والزهرى وأبو حازم وابنه عباس بن سهل وغيرهم، توفى سهل سنة إحدى وتسعين وقد بلغ مائة سنة، ويقال: إنه آخر من بقى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان يصبغ لحيته باللون الأصفر، كان يقول: لو مت لم تسمعوا من أحد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
شصص جمع شصوص بضم الشين: والنصوص، الشاة التي قل لبنها جدا أو ذهب (النهاية ج 2 ص 220).