الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على المدينة قال: "هذه طابة، وهذا جبل أحد يحبنا ونحبه. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.
قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فتاب الله عليهم:
الضعف البشرى يكاد يكون من الصفات التي لا تفارق الإِنسان، بل هي من صفاته الأساسية وحتى في العهد النبوي، عهد الإِيمان والصدق والتضحية والفداء والصبر والإِيمان ونكران الذات في سبيل نصرة العقيدة. حتى في ذلك العهد المثالي المشرق الذي جيله هم المثل الأعلى لمن أتى بعدهم في السمو والبذل والعطاء إلى حد السخاء بالروح في سبيل دعم العقيدة، حتى في ذلك العهد النبوي - حيث كان الوحى ينزل من السماء على رسول الأمة صلى الله عليه وسلم فعل الضعف البشرى فعله الجالب للعقوبة في مجموعة من الصفوة المختارة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فأتوا ما نكد عليهم صفو حياتهم وعمل تمزيقًا بخناجر الهم والحزن في قلوبهم الطاهرة التي لم يخالطها شك أو ارتباب في الدين الذي ناصروه والنبي الذي أحبوه بكل معاني هذه الكلمة، إذ تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لا عن ضعف في الإِيمان أو جدب في العقيدة أو تذبذب في الإِسلام، ولكن كان تخلفهم تحت تأثير الضعف البشرى الذي "في فترة من هذا الضعف" حبب إليهم الراحة والدعة في الظل بين الأهل وطيب الثمار على مشقة الغزو والجهاد في الحر والتقشف وشظف العيش، فاستجابوا "مع التردد" لهذا الضعف البشري، فتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لهم محنة وأية محنة قاسية، لم يخرجهم وينجيهم من براثنها التي أخذت كلاليبها بمخانقهم إلا الصدق.
فترفع بهم إيمانهم الصادق عن أن يسلكوا سبيل المنافقين، فيعتذروا ويكذبوا، مع علمهم أنهم ليس لهم عذر في هذا التخلف إلا الضعف البشري - إن أمكن تسميته عذرًا - وذلك هو الذي رشحهم للنجاة من
غضب الله تعالى، فتاب الله عليهم بعد أن كادوا أن يهلكوا، تاب عليهم لأنهم اعترفوا بذنوبهم، فأقروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يكن لهم أي عذر حين تخلفوا عن المفروض على كل قادر من المسلمين، فأرجأ الرسول صلى الله عليه وسلم البت في أمرهم منتظرًا أمر الله تعالى فيهم، فأمر المسلمين بمقاطعتهم، وأمرهم كذلك بأن يعتزلوا نساءهم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
إن قصة توبة هؤلاء الصحب الكرام الثلاثة شيقة وشاقة وصعبة، فقد نالهم نتيجة صدقهم الكامل الشيء العظيم من الآلام النفسية المبرحة والتعرض للفتنة القاسية، ولكن إيمانهم الصادق صمد لكل ذلك، رغم ما سبب لهم هذا الصدق من محن شديدة وآلام نفسية كادت أن تأتى على نفوسهم فيموتوا كمدا.
فقد شاء الله أن لا يتذوقوا حلاوة الصدق وبهجة نتائجه إلا بعد أن تجرعوا كؤوس مرارة الصبر عليه، وفي ذلك عبر ومواعظ ودروس للمؤمنين، فالمؤمن "إذا أخطأ" فلا يتهرب ولا يتبرم من الاعتراف "صادقًا" بالخطأ، حتى وإن كانت نتائج هذا الصدق قاسية. ففي الغالب "وفي مجال الخطأ" تكون نتائج التزام الصدق - دونما لف أو دوران متاعب كبيرة في هذه الدنيا، ولكن يقابلها في النهاية سعادة أخرى، لأن الآلام الناتجة عن التزام الصدق آلام عابرة رغم شدتها، ولكن لذائذ الصدق في النهاية لذائذ لا تنتهي. ففي الدنيا يشعر الصادق - بعد تعرضه لموجات آلام الاعتراف بالخطأ - بسعادة نفسية لا تعادلها سعادة، والسعادة الكبرى والأكبر هي سعادته الأبدية في الآخرة جزاء التزامه الصدق.
ولما كان في قصة هؤلاء الصحب الكرام الثلاثة الذين تخلفوا "دونما مبرر" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لما في هذه القصة من دروس عالية في الصدق ومحاسبة النفس على خطئها وفي الثبات على الإِيمان والاستجابة لنداء الضمير بعد استيقاظه "إن صح هذا التعبير" سنروى لكم قصة هؤلاء الثلاثة الذين أشار القرآن الكريم إلى تخلفهم وكيف تاب الله علم، وذلك ليدرك الإنسان "أي إنسانًا كيف أن الصدق" وخاصة من الإنسان ضد نفسه إذا أخطأ" هو الذي ينجى صاحبه كل النجاة، وكيف أن الله تعالى
يقبل التوبة الصادقة من عباده إذا أخلصوا في محاكمتهم لأنفسهم بالصدق والتوبة مهما كانت معصيتهم حتى ولو كانت الشرك الأكبر {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (1).
إن هؤلاء الثلاثة من الصحب الكبرام الذين أذنبوا بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك هم من الأنصار، وهم "كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع" وقصتهم كما رواها عامة أصحاب الحديث والسير والمفسرون كما يلي:
قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أنى تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
كان من خبرى أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة "يعني غزوة تبوك" غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا وعدوا كثيرًا، فجلى للمسلمين أميرهم ليتأهبوا، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ .. ويستطرد كعب بن مالك فيقول: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت لكى أغدو أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئًا فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئًا. فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ولم أقض شيئًا، ثم غدوت ورجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت ورجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارطوا، وهممت أن
(1) الزمر: آية 53.
أرتحل فأدركهم وليتنى، فعلت فلم يقدّر لي ذلك.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزننى، لأننى لا أرى إلا رجلًا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس، ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظر في عطفه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كعب بن مالك، قد ذكر في بعض قصة تخلفه الحقيقة في صدق المؤمن وإيمان الصادق بأن لا عذر له في التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن صاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع لم يكونا بأقل منه مستوى من حيث الصراحة مع أنفسهما ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقاه الحديث بأنهما لم يكن لهما عذر في التخلف، فعلم الله ما في أنفس الثلاثة فتاب سبحانه وتعالى عليهم جميعًا.
ولنترك هلال بن أمية يحدثنا قصته وقصة زميله مرارة بن الربيع. قال هلال بن أمية حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: والله ما تخلفت شكا ولا ارتيابا، ولكن كنت مقويا في المال. قلت: اشترى بعيرًا، ولقينى مرارة بن الربيع، فقال: أنا رجل مقو فأبتاع بعيرًا وأنطلق به. فقلت: هذا صاحب أرافقه، فجعلنا نقول نغدو فنشترى بعيرين فنلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يفوت ذلك، نحن قوم مخفّون على صدر راحلتين فغدا نسير فلم نزل ندفع ذلك ونؤخر حتى شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد. فقلت: ما هذا بحين خروج، وجعلت لا أرى في الدار ولا في غيرها إلا معذورًا أو منافقا معلنا فأرجع مغتمًا بما أنا فيه، وكان أبو خيثمة قد تخلف معنا، وكان لا يتهم في إسلامه ولا يغمص عليه فعزم على ما عزم، وكان أبو خيثمة يسمى عبد الله بن خيثمة السالمى، فرجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على امرأتين له في يوم حار فوجدهما في عريشين لهما، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماءًا وهيأت له فيه طعامًا. فقال: سبحان الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له من ذنبه ما تقدم
وما تأخر في الضح (1) والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة في ظلال بارد وطعام مهيأ وامرأتين حسناوين مقيم في ماله، ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى أخرج - فألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأناخ، ناضحه - يعني بعيره - وشد عليه قتبه وتزود وارتجل، فجعلت امرأتاه تكلمانه ولا يكلمهما حتى أدرك عمير بن وهب الجمحى (2) بوادى القرى يريد النبي صلى الله عليه وسلم فصحبه فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة: يا عمير إن لي ذنوبا وأنت لا ذنب لك فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ففعل عمير، فسار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقال الناس: يا رسول الله هذا أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرًا ودعا له.
هذه القصة رواها - بكل صدق ونزاهة وتجرد وأمانة - أحد الثلاثة الذين تخلفوا، وكاد أبو خيثمة أن يكون منهم لولا أنه تغلب على ضعفه البشرى فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقى الثلاثة من الصحب الكرام (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع) يتجرعون هموم تخلفهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن حرارة الإيمان الصادق أيقظت ضمائرهما العامرة بالصدق والطهارة والنقاء فتحملوا - نتيجة تغلب الضعف البشرى عليهم - الشيء العظيم، وكان الهم الثقيل الذي تحملوه وشعروا بثقله يكاد يقطع نياط قلوبهم بعد فوات الأوان دليل عافية في إيمانهم، فلولا هذا الإِيمان الصادق ما أشغلوا بالهم، وما تحملوا منه ما تحملوا مما كاد أن يودى بحياتهم، فقد كان بإمكانهم أن ينتحلوا الأعذار ويبرروا تخلفهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بأي مبرر كاذب كما فعل المنافقون الذين قبل منهم الرسول صلى الله عليه وسلم عذرهم مع انطوائهم على الغش والكذب والتزوير، ولكن كيف لإيمان
(1) الضح -بكسر الضاد-: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض.
(2)
انظر ترجمة عمير بن وهب في كتابنا "غزوة بدر الكبرى".