الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحيته لتقطر دموعا الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن خدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدرينى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، والله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليالٍ، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا.
انتهاء المحنة بالتوبة:
ثم يستطرد كعب بن مالك متحدثًا عن مجيء الفرج عن السماء بانكشاف المحنة القاتلة وذلك بنزول القرآن بتوبة الثلاثة المتخلفين من الصحابة التي ذكر الله فيقول: ثم صليت الصبح على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع، فكنت، إذ سمعت صارخا أوفى على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء الفرج. فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حِين صلى الصبح.
وكانت التوبة التي تاب الله بها على الصحابة الكرام الثلاثة قد تضمتنها ثلاث آيات وهي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلا إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
وكانت أم المؤمنين أم سلمة تروى حديث هذه التوبة فتقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله
على هؤلاء النفر، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر فواى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب يبشره بذلك.
وخرح الزبير بن العوام على فرسه في بطن الوادي فسمع صوت أبي بكر قبل أن يأتي الزبير، وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره ببنى واقف، فلما أخبره سجد، قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاء منه بالحزن حتى خيف عليه، ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حمارًا، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بنن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا إلى مرارة فأخبراه، فاقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال كعب بن مالك: وكان الصوت الذي سمعت من الفارس الذي يركض في الوادي - وهو الزبير بن العوام - والذي صاح على سلع - يقوق كعب -: كان رجلا من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي بشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبى فكسوتهما إياه لبشارته، والله ما أملك يومئذ غيرهما، ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئوننى بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المجلس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلى طلحة بن طلحة فحياني وهنأني، ما قام إلى من المهاجرين غيره - فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، ويقال قال له: تعال إلى خير يوم ما طلع عليك شرقه قط، قال كعب: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة قمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتى إلى الله وإلى رسوله أن أنخلع من مالى إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك. قال: قلت: إني ممسك بسهمى الذي بخيبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قلت: النصف، قال: لا، قلت: فالثلث، قال: نعم، قال: إني يا رسول الله أحبس سهمى الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجانى بالصدق، فإن توبتى إلى الله أن لا أُحدث إلا صدقًا ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم؟ أحدًا من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلانى، والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا، وإني لأرجو أن يحفظنى الله عز وجل فيما بقى. وقال كعب وكان شاعرًا:
سبحان ربي إن لم يعف عن زللي
…
فقد خسرت وتب القول والعمل
ثم قال كعب: فوالله ما أنعم الله على من نعمة قط إذ هدانى للإِسلام كانت أعظم في نفسي من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله تعالى في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحى شر ما قال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (1).
قال كعب: وكنا خلفنا آيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) صحيح البخاري ج 6 ص 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 ومغازى الواقدي ج 3 ص 1049 - 1050 - 1051 - 1052 - 1053 - 1054 - 1055 1056 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 175 - 176 - 177 - 178 - 179 - 180، وإمتاع الأسماع ص 485 - 486 - 487 - 488 وزاد المعاد - ج 3 ص 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 والبداية والنهاية ج 5 ص 33 - 24 - 25 - 26 وجوامع السيرة ص 255 وتاريخ الطبري ج 93 الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 192 - 193 وتاريخ الطبري ج 3 ص 111 وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 822 وبهجة المحافل ج 2 ص 35 - 36 - 37 - 38 - 39 - 40 - 41 - 42 - 43 وحياة محمد ص 460 - 461 والسيرة الحلبية ج 2 ص 268 - 269 - 270 والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 167.