الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حملة خالد بن الوليد إلى نجران .. ربيع الآخر عام 10 ه
ـ:
وبعد غزوة تبوك التي حدثت في رجب من السنة التاسعة للهجرة، والتي كانت خاتمة الأعمال الحربية التي يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، حوى الإِسلام الوضاء جميع أقاليم الجزيرة العربية تحت جناحية، ما عدا منطقتين قصيتين في الركن الجنوبي من جزيرة العرب، وهما منطقة مذحج باليمن ومنطقة بني الحارث بنجران. هؤلاء لم يجيبوا داعى الإِسلام، فلم يبعثوا بوفودهم إلى المدينة لإِعلان إسلامهم كما فعلت كل العرب خلال السنة التاسعة من الهجرة.
وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مذحج الموجودين في أقصى جنوب اليمن - الإمام علي بن أبي طالب، وإلى بني الحارث في نجران خالد بن الوليد.
ففي شهر ربيع الآخر أصدر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أمرًا إلى القائد خالد بن الوليد بأن يتحرك إِلى بني الحارث بنجران - وكانوا بطن من القحطانية عظيم من مزحج فَهُمْ قوة هائلة وتاريخهم العسكري في الجاهلية تاريخ مشهور - وكان الجيش الذي قاده خالد بن الوليد جيشًا كثيفًا.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القائد خالدا بأن لا يبدأهم القتال حتى يعذر إليهم، بحيث يدعوهم (أولًا) إلى الإِسلام ثلاثا، فإن أجابوا وأسلموا وإلا قاتلهم واجتاح ديارهم كى يمحو آثار الشرك بينهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن لا تبقى للشرك والوثنية أية معالم في جزيرة العرب.
كما قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا قبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. وقد صدع خالد بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص بجيشه إلى نجران، ولما وصل هناك نفذ تعليمات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم فوجه (أولًا) الدعوة إلى بني الحارث بأن يدخلوا في الإِسلام كى لا يضطر إلى محاربتهم، ويذكر المؤرخون أن قبيلة بني الحارث قد استجابوا لداعى الإِسلام دون أن يبدوا أية مقاومة عسكرية، وقاموا بإرسال وفد منهم إلى
المدينة لتأكيد إسلامهم على يد النبي صلى الله عليه وسلم ..
قال ابن إسحاق: فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإِسلام، ويقولون. أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم يخالد يعلمهم الإِسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
وبعد أن أسلم بنو الحارث على يد خالد بن الوليد أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا قال فيه: بسم الله لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، يا رسول الله صلى الله عليك، فإنك بعثتنى إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتنى أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإِسلام، فإن أسلموا أقمت فيهم، وقبلت منهم وعلمتهم معالم الإِسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإِسلام ثلاثة أيام كما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث أسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمر الله صلى الله عليه وسلم وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
وبعد أن تسلم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب خالد بن الوليد المتضمن إسلام قبائل بني الحارث بنجران دونما قتال، أمره بأن يعود إلى المدينة وأن يصطحب معه وفدًا من ساداتهم وذلك في كتاب بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد قال فيه:"من محمد رسول الله إلى خالد بن الوليد سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءنى مع رسولك، تخبرنى أن بني الحارث بن كعب أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وانذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته".
وبعد أن تلقى خالد جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن أمره بأن يعود
ومعه وفد بني الحارث عاد خالد ومعه الوفد ومن الجدير بالذكر أن بني عبد المدان المشهورون بالشرف كانوا من بني الحارث وفيهم يقول الشاعر:
ولو أني بليت بهاشمى
…
خؤولته بنو عبد المدان
لهان على ما ألقى ولكن
…
تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
قال ابن إسحاق (1): فأقبل خالد وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحسين ذي الغصة، ويزيد بن عبد الدان (2)، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادى، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابى.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم
رجال الهند، قيل يا رسول الله: هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة. فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن خالدًا لم يكتب إلى أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم.
وهنا أجابه يزيد بن عبد المدان بما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم يمنح الناس حرية القول المطلقة، وهو ما يسمون اليوم (بالديمقراطية) فقد قال له يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حَمِدْنَا خالدًا. قال: فمن حمدتم؟ قالوا حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله، قال: صدقتم.
(1) هو قيس بن الحصين بن يزيد بن شداد بن قتادة بن سلمة بن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجى الحارثي كان رئيسًا على قومه مائة سنة، وسمى ذا الغصة لغصة كانت في حلقه.
(2)
لم يزد في (أسد الغابة) - عند ترجمة يزيد - على أن ذكر بعض قصته مع الوفد عندما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بنو الحارث قوة ضاربة مرهوبة في الجاهلية مشهورة بكثرة انتصاراتها في المعارك التي تخوضها، لأنهم مجتمعون على كلمة واحدة، ولديهم من العقل ما يمنعهم من الاعتداء على الناس ولكن إذا أجبروا على الحرب خاضوها كسبوها. ولذلك سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا لم نكن نغلب أحدا. قال: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم. قالوا كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدًا بظلم. قال صدقتم، وأَمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين.
قال ابن إسحاق: فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال وفي صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويذكر رواة الحديث وأصحاب السير، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني الحارث - بعد أن غادر المدينة وفدهم - عمرو بن حزم ليفقههم في الدين السنة ومعالم الإِسلام ويأخذ منهم صدقاتهم. وقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابًا ضمنه نواحى هامة من أوامر الإِسلام ونواهيه وآدابه، وقد كان لهذا الكتاب منزلة كبيرة بين كثير من رجال التشريع المسلمين لما احتوى على كثير من أصول التشريع الإِسلامي، ويطلق علماء الحديث على هذا الكتاب اسم صحيفة عمرو بن حزم، (1) وبعضهم لا يحتج بها لضعف في سند روايتها، والأكثر يحتجون بها، ولأهمية ما جاء في هذه الصحيفة من تعاليم وتوجيهات وآداب فإنا سنوردها هنا كاملة بإذن الله تعالى، فهي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا
(1) هو عمرو بن حزم بن يزيد بن لوذان النجارى الخزرجى، يكنى أبو الضحاك، من شباب الصحابة، أول مشاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران وهو ابن سبع عشرة سنة. توفى بالمدينة سنة إحدى وخمسين هجرية، وروى عنه ابنه محمد والنضر بن عبد الله السلمي وزياد بن نعيم الحضرمي (أسد الغابة ج 4 ص 98 - 99).
أوفوا بالعقود، عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، فلا يمس القرآن إلا طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم، والذي عليهم، ويلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته، وما أمر الله به، والحج الأكبر:(الحج الأكبر والحج الأصغر هو العمرة)، وينهى الناس أن يصلى أحد في ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبًا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى الناس أن يحتبى أحد في ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف، حتى يكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والسجود والخشوع، ويغلس بالصبح، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل، وأمر بالسعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وفي كل عشر من الإِبل شاتان، وفي كل عشرين أربع شياه، وفي كل أربعين بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبير، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى إسلامًا خالصا من نفسه، ودان بالإِسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم، وعليه مثل ما