الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف هرب عدى بن حاتم إلى الشام:
ولنترك ملك طيئ عدى بن حاتم نفسه يحدثنا عن الحالة النفسية التي كانت عليها عشائر طيئ وعلى رأسها عدى بن حاتم الذي انتابه الرعب، حيث قرر الهرب إلى الشام، بمجرد أن علم باقتراب أية قوة للمسلمين من مواطن طيئ مهما كان عدد هذه القوة، وذلك بعد أن علم أن السيطرة لقوات الإِسلام المسلحة في الشرق والغرب والجنوب والوسط من الجزيرة كاملة، وأنه لم يبق على عداء للإِسلام سوى قبائل طيئ وبعض عشائر قضاعة بدومة الجندل والجميع متجاورون تقع منازلهم في أقصى شمال الجزيرة العربية بالقرب من الحدود الشامية والعراقية.
فقد ذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق، أن عدى بن حاتم الطائي قال: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به منى.
أما أنا فكنت امرأ شريفًا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومى بالمرباع (أي أنه كملك يأخذ الربع من الغنائم التي تغنمها طيئ في الجاهلية) فكنت في نفسي على دين (وهو النصرانية رغم أن قومه وثنيون) وكنت ملكًا في قومى لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته. فقلت لغلام كان لي عربي - وكان راعيا لإِبلى -: لا أبا لك أعدد لي من إبلى أجمالا ذللا سمانًا فاحتبسها قريبًا منى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنى (أي أخبرني) ففعل.
ثم إنه أتانى ذات غداة فقال: يا عدى ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد (مع العلم أنه لم تكن هناك جيوش وإنما هي دورية قتال خفيفة ولكنه الرعب العام) قال عَدى: فقلت: فقرب إلى أجمالى، فقربها فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية (1) وخلّفت بنتًا لحاتم في الحاضر (قلت هي السفانة المشهورة
(1) قال ياقوت: الجوشية، جبل للضباب قرب ضرية من أرض ونجد.
برجاحة العقل وبعد النظر والتي أسرت وأكرمها الرسول صلى الله عليه وسلم وأعتقها من الأسر).
قال عدى: فلما قدمت الشام أقمت بها وتخالفنى خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم (السفانة) فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا طيئ (1) وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربى إلى الشام، قال: فجعلت ابنة حاتم في حضيرة بباب المسجد، كانت السبايا يوضعن فيها، فمرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه (وكانت امرأة جزلة أي شجاعة وجريئة) فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك. قال: فمن وافدك؟ قالت: عَديّ بن حاتم. قال: الفارّ من الله ورسوله؟ قالت: نعم.
قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنى، حتى إذا كان من الغد مرّ لي فقلت له مثل ذلك، وقال لي: ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرّ بي وقد يئست منه فأشار إلى رجل من خلفه أن قومى فكلميه، قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليّ من الله عليك. فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنينى (أي أخبرينى). قالت السفانة: فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة. قالت: وإنما أريد أن آتى أخي بالشام. قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومى لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكسانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملنى (أي أعطانى بعيرًا) وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
(1) انظر موقف الإسلام من السبايا والرق الحربى في كتابنا (غزوة بني قريظة) حيث أوضحنا فيه أن الرق في الإِسلام كان عملية حربية مقابلة لا بد لجند الإِسلام من القيام بها لأن الأعداء يسترقون نساء وصبيان المسلمين إذا وقعوا في أيديهم، ومع ذلك فحث الإسلام على العناية بالأسر وإطلاق سراحه: جعل ذلك من أبر الأعمال والأسرى والسبايا الذين حَثَّ الإِسلام على العناية بهم وتحريرهم، في الأصل عن غير المسلمين.
قال عَدى بن حاتم: فوالله إني لقاعد في أهك إذ نظرت إلى ظعينة (الظعينة المرأة التي في سفر) تصوّب إليّ تؤمنا. قال: فقلت: ابنة حاتم. قال: فإذا هي هي، فلما وقفت عليّ انسحلت تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك؟ . قال: قلت: أي أخية لا تقولى إلا خيرًا، فوالله ما بي من عذر ولقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت وأقامت عندي. فقلت لها - وكانت امرأة حازمة -: ماذا ترين في أمر هذا الرجل (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت. واللة إن هذا الرأي. قال عَدى فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال: من الرجل؟ فقلت عديّ بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بي إلى بيته، فوالله إني لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجة قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا فقذفها إليّ وقال: اجلس على هذه. قال: قلت: بل أنت تجلس عليها. فقال: بل أنت، فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض.
قال عديّ: قلت في نفسي: ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدى بن حاتم، ألم تك ركوسيًا؟ (الركوسية دين بين دين الصابئة والنصارى) قال: قلت: بك، قال: أو لم تكن تسير في كما قومك بالمرباع؟ قال: قلت بلى. قال: لم يكن يحل لك في دينك. قال: قلت: أجل والله. قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل. ثم قال: لعلك يا عدى إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، فوالله لوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع